أميركا مسؤولة عن تعاظم نفوذ إيران

TT

لهجة خطاب الرئيس الإيراني محمد احمدي نجاد امام الامم المتحدة عكست احساسا بتنامي طموحات بلاده في منطقة ـ من سياحل الشام حتى ممر خيبر ـ والتي تتعاطف جماهيرها مع لهجته في مهاجمة إسرائيل، وانتقاد سياسة أميركا «للتفرقة النووية» (مركبا كلمة النووية فوق التفرقة العنصرية Nuclear Aparteid).

وأعقب تهديد الاتحاد الأوروبي، برئاسة بريطانيا، بقرارات دولية ضد ايران، التهاب الموقف في البصرة بتصعيد في نشاط المليشيات الشيعية الموالية لطهران ومواجهتها مع القوات البريطانية والتي تمتعت بعلاقات طيبة مع الشيعة حتى الأسبوع الماضي. بعد فشل مشروعها لتصدير الثورة في الثمانينات، تحاول ايران احراج الحكومات امام شعوبها، بتحديها أميركا وإسرائيل، رغم ان هدف برنامجها النووي هو تقوية مركزها وبسط نفوذها في المنطقة، في غياب قدرتها العملية على تحدي اسرائيل في مواجهة نتيجتها معروفة سلفا

امتلاك السلاح النووي، يلقي شعبية بين عموم الجماهير، كما اتضح في سباق الهند وباكستان نوويا، وتحدي احمدي نجاد للغرب ـ وللتحذيرات الإسرائيلية من خطر قنبلة ايران الإسلامية ـ يحول انظار شعبه عن مشاكل يصعب حلها، كالاقتصاد والبطالة وانتهاك حقوق الإنسان.

اما التكهنات الصحافية، عن سيناريوهات لعمليات عسكرية محدودة لاستئصال الورم النووي الايراني، على غرار غارة 1981 الاسرائيلية على مفاعل اوزيراك العراقي، اكسبت ايران تعاطفا بين المسلمين على اختلاف جنسياتهم.

ادى الارتفاع الحاد في اسعار البترول ـ ومحدودية المطروح منه ـ الى زيادة دخل ايران وثقتها حيث وقعت عقودا ضخمة للتعاون والتجارة مع روسيا، اما فتح اسواق استهلاك جديدة، كالصين، ضخم كتلة البلدان غير المتحمسة لدعم واشنطن، في فرض عقوبات اقتصادية قد تؤثر على اسعار البترول.

ويقع تطور النفوذ ايران في اطار علاقتها مع أميركا، وما تراه من تهديدات الاخيرة لما تعتبرها مصالح اقليمية مشروعة. وتعود زيادة نفوذ ايران الى المنزلقات المألوفة للسياسة الخارجية الأميركية، مثل ازالتها لخصمين لدودين كبحا النفوذ الإيراني لسنوات: الطالبان، وصدام حسين، دون استراتيجية مدروسة لما بعد اسقاط النظامين.

ولا يجب اخذ شكوى الايرانيين من وجود عدو أخطر من صدام، هو أميركا، يحاصرهم من افغانستان شرقا، والعراق غربا، ومن قواعد عسكرية في الخليج وتركيا، على محمل الجد.

وضعت ايدولوجية طالبان السلفية العقيدة الشيعية، وإيران، في سلة «الأعداء» المبرر تدميرهم كالشيوعية «والمرحوم» الاتحاد السوفياتي، فخلقت ايران شبكة من المنظمات والخلايا لضرب الطالبان، تستخدمها اليوم في نشر النفوذ شرقا.

وكان صدام الذي بدأ حربا لثماني سنوات ضد ايران ـ بتسليح ودعم روسيا والغرب وتمويل عربي ـ معادلا استراتيجيا لإيران اوقف المد الخميني غربا. ولهذا لم يتقدم حلفاء 1991 الى بغداد بعد تحرير الكويت، وانتظروا انقلابا يطيح بصدام ويظل التوازن مع إيران، بدلا من انتخابات تجيء بأغلبية شيعية موالية لطهران ( تفسير وزير الخارجية البريطاني السابق السير جيفري هاو امام مجلس العموم.) وللسبب نفسه، وأثناء سنوات العقوبات الاقتصادية والحظر الجوي، تغاضت أميركا عن استضافة صدام لمنظمة مجاهدي خلق ـ الإرهابية لعدائها لطهران.

وربما نصدق قلق ايران من فيدرالية توسع الحكم الذاتي للأكراد، مما يحفز اكراد ايران المقهورين لمطالبة العالم بالمثل، او قلقها من ارهاب عصابة ابو مصعب الزرقاوي بأيدولوجيتها السلفية المعادية للشيعة، او من حرب اهلية تضطرها للتورط لدعم الشيعة، ومواجهة اوسع مع بلدان عربية.

الملاحظ ان سوء ادارة أميركا لعراق ما بعد صدام، وعدم الاشتباك ايجابيا وبتوازن في تحريك عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، ساعد من مصداقية بروباجندا طهران المعادية لأميركا في الشرق الأوسط وبين المسلمين.

تفوق الشيعة في العراق، كأغلبية ظلمت تاريخيا بعدم توليها الحكم ولو مرة، حول جنوب العراق الى امتداد للسياسة الايرانية. فإيران استضافت ودعمت وسلحت الأحزاب والمنظمات الشيعية المعارضة لصدام لثلاثة عقود، والمعارضة أصبحت حكومة بغداد اليوم. وصادف المراقبين ـ ومنهم كاتب هذه السطور ـ دلائل تواجد البسدران ومتطوعين إيرانيين داخل العراق، وان قالوا، في كل مرة، انهم يزورن اضرحة مقدسة.

تميز رد فعل ايران لأحداث 9 ـ11بسياسة خارجية مزدوجة. الأولى، تكتيك المدى القصير الذي انتهجت فيه «الحياد النشط» قبل مارس 2003 ( بدأ عملية «حرية العراق» العسكرية). لم تنحاز لأي من الأطراف، علاقات طيبة مع لندن ـ وزيارات متكررة من وزير خارجيتها جاك سترو، اتصالات مفتوحة مع بغداد وواشنطن ـ خاصة عن طريق المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق.

واكب ذلك تصعيد مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله خأمنئي من حدة الهجوم اللفظي على أميركا، واتهم اسرائيل باستغلال الحرب على الإرهاب لقهر المسلمين الفلسطينيين.

ومنذ صيف 2003، اتهم الأميركيون والعراقيون طهران بالتدخل في شؤون العراق، ودعم مليشيات كجيش المهدي بقيادة رجل الدين ذي السياسات الملتهبة مقتدى الصدر، رغم دفء العلاقات الرسمية الإيرانية العراقية.

ومع تحسن العلاقات مع بريطانيا، واثناء مفاوضات الترويكا الأوربية مع ايران، ساعد نفوذ الأخيرة في جنوب العراق القوات البريطانية على تجنب متاعب مثل التي صادفت الأميركيين في المناطق السنية في الوسط والشمال.

وظهر الفارق في عدم تدخل طهران لتهدئة مواجهة مقتدى الصدر مع الأميركيين قرب النجف ـ مع تقارير عن تشجيع ايران له _ في العام الماضي، واحتوى الموقف تدخل الزعيم الشيعي البالغ الاحترام اية الله على السيستاني بعد عودته من لندن.

الشق الثاني لسياسة طهران الخارجية بعد 9/11، التزم باستراتيجية المدى الطويل لم تتغير لمائة عام، وهي مد نفوذها في الخليج وساحل الشام والشرق الأوسط الكبير.

وكأي نظام شمولي، احتاجت الجمهورية الإسلامية لأسطورة التأسيس في اذهان الناس، فاختارت معاداة أميركا ( الشيطان الأكبر) كأسطورتها التأسيسية، وإضافات الخومينية «الجهاد» ضد الشيطان الأكبر، وتدمير «الشيطان الأصغر»، أي، اسرائيل الى استراتيجية المدى الطويل الثابتة.

وتحول دعم الجمعيات الخيرية الشيعية ـ تقليد من ايام الشاه ووالده ـ في لبنان الى دعم وتسليح لحزب الله. والاعتقاد الواسع في الأوساط الشيعية ولدى الجهاديين السنة، ان هذا الدعم مكن حزب الله من «طرد» اسرائيل من لبنان، بل يتطلع حزب الله لقيادة جهاد اخراج اسرائيل من فلسطين كلها.

ولذا يبذل دبلوماسيو اسرائيل، وأصدقاؤها، الجهود للدفع بقرار مجلس أمن بمعاقبة ايران، او أميركا لاتخاذ عمل عسكري ضد ايران.

ويثير هذا، بدوره، اصحاب نظرية المؤامرة في طهران، بينما يحاول البراجماتيون نزع فتيل الأزمة مع أميركا ـ كعون ضحايا اعصار كاترينا- وتوسيع الحوار مع الغرب، مع عدم تخليهم عن تحقيق اغراض الاستراتيجية الطويلة الأمد.

وبينما «يسخن» حلفاء ايران الجو على بريطانيا في جنوب العراق، فإن عرض احمدي نجاد بمشاركة تكنولوجيا البرامج النووية مع الأمم الإسلامية من المتوقع ان يحول المواجهة الأميركية مع ايران الى مواجهة مع العالم الإسلامي كله، في وقت تكاد تنعدم فيه خيارات واشنطن لإعادة «العفريت الإيراني الى العلبة».