.. وتمخَّض سلام السودان .. فولد شيئا ..!

TT

لوحِقتُ على مدى الثلاثة أيام الماضية، وعلى منابر فضائية وإذاعية، تعدَّت سبع استضافات، بسؤال واحد يدور حول معنى وجدوى ما حدث في السودان بأداء حكومة جديدة أول من أمس اليمين الدستورية أمام الرئيس عمر البشير، وأحسب أن للحدث دلالاته التي تتداعى لتصب في أكثر من اتجاه، ولتلامس منظومة من القضايا الشائكة التي ظلت تعتصر السودان، فيما أحسب أن عيب التغطيات الإعلامية، ما دون الصحف، أنها لا تستطيع تخطي تقنيات وفنيات صناعتها القائمة أصلا على سرعة الإيقاع، والجمل القصيرة، دعك من المقاطعات، وضغط الزمن، ولا عتب عليها في ذلك . ومن هنا جاء الدافع لتناول الحدث، في ضيافة الصحافة التي تتيح التحليل الدقيق والمحسوب، والأداء تحت مظلة حالة من الاسترخاء، تختلف كليا عن تلك التي تسحب الكثير من رصيدها أضواء الكاميرات وفنيات تلك الصناعة على الضفة الأخرى من النهر، ودعونا نبدأ :

تشكيل تلك الحكومة جاء بعد مخاض عسير، تحكمت فيه نصوص اتفاق السلام الموقع بين حزب المؤتمر الحاكم والحركة الشعبية في 9 يناير (كانون الثاني) 2005، بمعنى الوفاء باستحقاقات تقسيم السلطة وفق ذلك الاتفاق بنسب قالت بـ 52 % لحزب المؤتمر، و28 % للحركة الشعبية، و14% للقوى السياسية الشمالية، ما دون المؤتمر الوطني، و6 % للقوى السياسية الجنوبية، ما دون الحركة الشعبية لتحرير السودان، فيما سادت روح المخاض، أو قل لاحقته، عقيدة «الغنائم» التي ركن اليها فقه أميركا السياسي في القرن الثامن عشر بعبارة شهيرة لسانتور أميركي قال فيها: الى المنتصر تذهب الغنائم To the victor belong the spoils ، ولكن أميركا تجاوزتها لاحقا بعقيدة المؤهلات ، Merit system ، وهي أفضلُ وأقوَمُ بالطبع ، متى ما تحلت بالجدية ، أو عانقت الوفاء بمستلزمات ذلك المصطلح ، وذلك أمر يصبح عسيرا بالمجمل في دول العالم الثالث ، دعك من السودان حيث الحساب الواجب مرحليا للولاءات المذهبية والطائفية ، وللتوازنات الجهوية ، وحيث السيادة القائمة لمفاهيم لا تزال مختلة تجاه معنى السلطة وتجلياتها وتقاطعاتها بين «المكتب والسلطة» أو ما يسمى بالفارق بين «Office and Power» ، ولتقريب هكذا معنى ، ففي العالم الثالث والنظم العقائدية فيه ، تكون هناك سلطة غير مرئية ، خارج المكتب أو مكان صنع القرار ، والى ذلك عانت الإنقاذ نفسها من حالات الازدواج هذه فكان صراع البشير والترابي الذي انتهى بانتصار الأول ليصبح المكتب هو السلطة .

وعودة للحدث، فالثابت أنه لبى استحقاقا قالت به اتفاقية السلام، أي تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو ذات قاعدة عريضة، برغم تأخر التشكيل عن المدة التي نص عليها الاتفاق، من دون أن يلغي ذلك أن الحدث قد دشن اكتمال أدوات الجهاز التنفيذي لسودان ما بعد السلام، ليصبح مكملا لاكتمال الجهاز التشريعي الذي انفرد بمهام بنائه المنتصران، أي حزب المؤتمر الحاكم والحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيام مفوضية الدستور، ثم إعداد وإجازة دستور انتقالي، ثم قيام برلمان اتحادي وآخر لجنوب السودان تزامن مع تشكيل هذه الحكومة ، لتكتمل لفترة الست سنوات الانتقالية التي نص عليها الاتفاق الأجهزة المعنية بتسييرها تشريعيا وتنفيذيا ، ليواجه السودان بعدها استحقاق استفتاء ما أسماه بروتوكول ماشاكوس شعب جنوب السودان على الاختيار بين أن يبقى ضمن سودان واحد أو ينفصل .

من هنا يقول مجمل المشهد إن التشكيل حاول إرضاء أكبر قدر من التواقين للمشاركة، فيما قنع بممانعة من رأوا أن يبقوا في خندق المعارضة، وعلى رأسهم حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي، والمؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي، والحزب الشيوعي السوداني، في انتظار أن يعلن الحزب الاتحادي الديموقراطي بزعامة الميرغني موقفه، ومن هنا يقول منطق فصل الألوان المصاحب لأداء السياسة السودانية مع تشكيل هذه الحكومة، إنه قد توافرت للسودان، ولأول مرة منذ الاستقلال، حكومة من طيف عريض من الأحزاب، تتعدى العشرة، في مقابل كيانات كبيرة في المعارضة، ليرسي كل ذلك ، ولأول مرة أيضا ، الى وضع بنيات أساسية لفن الحكم يكون فيه «ائتلاف في الحكم» في مقابل ما يشبه الائتلاف أيضا في المعارضة ، في انتظار أن تطور المعارضة الجديدة من أدواتها كأن تتبنى برنامجا سياسيا يقترب من «البرنامج البديل» لبرنامج الحكومة ، وأن تشرع في تسويقه ديموقراطيا ، في انتظار فترة عامين أو يزيد بقليل ستشهد أول انتخابات تعددية في تاريخ السودان منذ يونيو 1989 ، تدشينا للديموقراطية الرابعة ، علما بأن السودان عاش ثلاث ديموقراطيات سابقة ، بين 1956 ـ 1958 و1964 ـ 1969 و 1985 ـ 1989 ، انقضت عليها انقلابات عسكرية ، لتقول لك معادلة الحكم في السودان إنه وخلال ما يقرب من الـ 50 عاما منذ الاستقلال ، سادت الديموقراطية لنحو 12 عاما في مقابل 83 للحكم الشمولي.

تشكيل تلك الحكومة جيء وقضية دارفور ماثلة بحضورها في مفاوضات أبوجا ، مع جديد يقول إن وجود الحركة الشعبية لتحرير السودان في مؤسسة الرئاسة بمنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية ، مقروءا مع وجودها السابق في التجمع الوطني المعارض الذي ضم غالب المعارضين لأهل الإنقاذ، يهبها مزايا من يستطيع أن يهمس في أذن المؤتمر الوطني ، وأن يهمس في ذات الوقت للحركات التي تتصدر أزمة دارفور قتالا مع المركز أو حوارا معه في أبوجا ، مثلما يصدق نفس الشيء على أزمة شرق السودان التي تعيش حالة من الكمون المؤقت ، وكل ذلك بدون أن يعتبر المركز في الخرطوم أو الأروقة لدى من يحمل السلاح في الشرق أو الغرب ، أن ذلك نفاق من الحركة الشعبية .

تشكيل الحكومة أدار عجلة عربة فن الحكم الجديدة في السودان، لتبدو رحلتها مثقلة بتحديات كبيرة، ليفتح السودانيون، ومعهم ائتلاف المعارضة، عيونهم مراقبين سير العربة ، على مدى ثلاثة أعوام ، ليختبروا الديموقراطية الرابعة بانتخابات تعددية ، ثم على مدى عامين بعدهما ليروا إن كانوا مجتمعين سيملكون وطنا واحدا أو أكثر من دولة تخرج من بين شظاياه ، وذلك هو عين الذي جعل حدثا عاديا مثل تشكيل حكومة سودانية جديدة يبدو مختلف اللون والطعم والرائحة عن حكومات كثيرة تتشكل شرقا وغربا .

[email protected]