الكلام الساكت

TT

عاش المجتمع المصري حالة من الإثارة السياسية طوال الأشهر الماضية، وصلت ذروتها خلال الفترة السابقة لانتخابات الرئاسة التي شهدت الحملات الانتخابية للمرشحين العشرة، وهي الانتخابات التي انتهت بفوز الرئيس مبارك ـ كما كان متوقعاً ـ وأظنها أيضاً انتهت بفوز نجاح انطلاق عملية التغيير في مصر، وهو التغيير الذي يسير في طريق الوصول بالمجتمع المصري لمجتمع ليبرالي حقيقي، وما حدث كان خطوة في الطريق الصحيح، أياً كانت ملاحظاتنا عليه.

المرحلة التي عاشتها مصر خلال الفترة الماضية، وصلت بها الأمور إلى حدود وصلت أحياناً إلى مرحلة الالتهاب السياسي، بدا ذلك خلال الحوارات المتبادلة على صفحات الصحف وشاشات التلفزيون، وهي حوارات تجاوزت في مراحل عدة المستويات المقبولة، ووصلت أحياناً إلى حد الصفعات أو اللكمات تحت الحزام وفوقه. وعلى الرغم من التحفظ على هذه المستويات إلا أن الحالة العامة السائدة كان متفهماً فيها الوصول أحياناً إلى مثل هذه التجاوزات.

الآن انتهت هذه المرحلة استعداداً لمراحل أخرى سوف يشهدها المجتمع المصري في شهر نوفمبر المقبل، عندما تنطلق أول انتخابات برلمانية تجري بعد أول انتخابات رئاسية متعددة، وكان مفهوماً ـ ومطلوباً ـ خلال المرحلة التالية للانتخابات الرئاسية أن تسود حالة نسبية من الهدوء ـ ليس السكون ـ ولكن نوعاً من هدوء الحدة التي سادت خلال الفترة الانتخابية، وتنطلق حوارات أكثر عمقاً وأكثر شمولاً تدور حول الاهتمامات الرئيسية بالمجتمع ومشكلاته، ودراسة التجربة وسلبياتها وإيجابياتها. كان المنتظر حالة من الهدوء العاقل تتفق فيه الأطراف جميعها، الفائزة والخاسرة والمقاطعة، على خلق أرضية مشتركة تنطلق منها هذه الأطراف في ذلك الحوار الذي يستحقه ويتوقعه منهم المصريون، لكن ما حدث أن هذه الحالة المتوقعة لم تستقر لدى كل الأطراف، بل امتدت حالة الالتهاب غير الصحي في الحوار والتعامل بذات المنطق السابق الذي هو مرفوض رغم تفهمه أحياناً. حالة التسخين التي تقوم بها أطراف عدة الآن في المجتمع، تخلق حالة من العصبية والتوتر لا يخسر فيها إلا أصحاب الوطن الحقيقيون، لأنه في ظل هذه الحالة تتوه العقول، ويعيش المنطق غريباً في أرض ليست أرضه. ويسود الساحة الصوت العالي المتجاوز الذي حوله أي شيء إلا العقل والمنطق، وهنا أتحدث عن بعض الأصوات التي رفعت شعارات البطلان وسقوط الشرعية، واستمرت أو تمادت في إهانة التجربة والأشخاص، بل والوطن أحياناً، كتابات وصلت في بعض الأحيان إلى مستوى جلد الذات وجلد الوطن وجلد الآخر ـ أي آخر ـ ، وبدت الحال وكأنها حالة جلد عامة لم يعد أصحابها قادرين على غير العيش في هذه الحالة، وصلت حال تناولنا لأوضاعنا إلى حالة غير مسبوقة، لا تخلق إلا حالة من الإحباط المخيم، واليأس الذي لا عودة فيه، لست هنا ضد أن نتناول المشكلات الحقيقية والفساد والتراجع في أشكاله المختلفة، ولكني ضد النبرة والحالة الإحباطية الدائمة، لست ضد نقد بناء لمشكلات المجتمع وأشخاصه، ولكني لا أفهم ولا أملك إلا أن أشعر بمرارة عندما يسأل كاتب مقال قارئه: عزيزي المواطن، هل أنت «قواد»؟ ـ قيلت بلغة دارجة مفهومة بدون تصريح ـ هل يمكن لمثل هذا الحوار إلا أن يخلق حالة سوداوية.

إن جزءاً لا بأس به من الكلام هو كلام لا منطق له، بل لا صوت له رغم صوته العالي، هو كلام ساكت، كما يقول التعبير السوداني، كلام لا معنى له، لا منطق له، لا صوت حقيقيا له، لكنه يظل بعيداً عن الحالة المبتغاة لمجتمع تتحاور أطرافه بكلام ناطق لا كلام ساكت.