تناقضات

TT

إنه الصراع السرمدي بين القول والفعل، إنه الصراع الذي يجعل منا بشرا، هوة بين ما نعظ به وما نمارسه، وتناحر في التوافق بين كلماتنا وشعاراتنا وبين أفعالنا، تلك ليست سمة عربية أو خاصة بأمة «لا إله إلا الله»، بل هي ما يميز الإنسان، وهي وقود الصراع الأبدي بين الخير والشر، وكلما قلت الهوة بين ما نقول وما نفعل، كلما كنا أكثر انسجاما واتزانا، بينما تتزايد تناقضاتنا باتساع الهوة بين القول والفعل، حتى تصبح حالة مرضية ـ ليست على الصعيد الفردي وحسب، بل على صعيد المجتمع برمته...

نائب رئيس الوزراء الفلسطيني أطلق تصريحا ناريا ضد من أسماهم بالمهرولين إلى التطبيع مع إسرائيل واعتبر ذلك خيانة للقضية ولدماء شهداء الأمة، وذلك في إشارة إلى لقاء وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم بنظيره الإسرائيلي شلفان شالوم، ومصافحة الرئيس الباكستاني برويز مشرف لرئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون على هامش قمة الأمة المتحدة في نيويورك، والتناقض هنا أن الفلسطينيين هم الذين اتفقوا مع الإسرائيليين سرا في أوسلو، ووقعوا اتفاقا بمعزل وعدم علم العرب والمسلمين، ولا أدري لماذا يراد من الآخرين أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك؟ والفلسطينيون يقولون بأنهم جاهزون لمفاوضات المرحلة الأخيرة من المفاوضات مع الإسرائيليين لوضع حد نهائي للصراع!!

كانت القضية الجدلية الأولى في الانتخابات النرويجية الأخيرة مسألة رياض الأطفال في البلاد، وكيفية مراجعة المنهج والمحتوى والامتيازات والتسهيلات التي يجب أن يحصل عليها الأطفال وذووهم أثناء هذه المرحلة الهامة، بينما العقدة الكبرى التي رافقت الانتخابات الأفغانية هي كيفية التصدي لجرائم طالبان في إجهاض الانتخابات وعرقلتها بأعمال إرهابية، وكان الهم في انتخابات مصر الرئاسية الأخيرة هي مدى نزاهتها وخلوها من الشوائب والتزوير ..!

الجامعة العربية بأمينها وأعضائها أرسلت التصريحات تترى تناشد كتبة الدستور العراقي بالتشديد على عروبة العراق، وهي لم ترسل مبعوثا أو ممثلا لها في العراق بعد، بينما يضحي غير العرب بحياتهم للمساهمة في تشكيل المشهد العراقي القادم. العرب التي خرجت بالملايين تتظاهر دفاعا عن صدام حسين ـ عفوا عن أطفال العراق ـ لم يخرج منهم عشرة في مظاهرة احتجاج رمزية تدين قتل العراقيين العشوائي في مسلسل دام لم يتوقف منذ سقوط صدام..! والممثلون والممثلات الذين توافدوا على العراق إبان حكم صدام حسين تضأمنا مع «أطفال العراق»، لم يذرفوا دمعة على المذابح العبثية الدامية التي تطال العراقيين بكافة شرائحهم..! إيران النفطية التي تعاني من مشاكل اقتصادية متراكمة، ومن بطالة الملايين، تصر على التمسك ببرنامجها النووي وعلى تحدي العالم أجمع، وبأنها ماضية في هذا البرنامج المكلف، مهما كلفها هذا الإصرار من تضحيات!!

وفي الكويت، تعاقبت أصوات برلمانية ضد إجراءات حكومية بتحويل وزير سابق إلى النيابة، أي أن حماة القوانين ومشرعيها ضد تطبيقها بدلا من تأييد الحكومة بتنفيذ حكم القانون، على الرغم من أن الوزير السابق ابدى استعدادا ـ يسجل له ـ بالمثول أمام القضاء لثقته بنفسه وببراءته!!

من كان يصدق كل هذا العداء «المفاجئ» لسوريا في لبنان، فسوريا كانت قبل أشهر قليلة متلازمة المسار، وهي الأخت الكبرى، وحامية التحرير، وداعمة المقاومة وقلعة العروبة، فتحولت «فجأة» إلى المسبب الأول والأخير لكل المشاكل اللبنانية!! المشهد في عالمنا مليء بالتناقضات، ويسبب حيرة مَرَضية لكل متابع يحاول لملمة الفهم، ورسم خطوط المنطق، أشعر بتعاطف كبير مع المتابعين للمشهد، وأنا أدعي بأني أحدهم، وقلبي على الجيل الجديد الذي ينشأ في محيط وبيئة مليئة بالتناقضات، ليست تناقضات طبيعية ترسم ملامح الطبيعة البشرية، بل هي هوة صارخة، تنذر بأمراض خطيرة تعكس عمق الأمراض في شخصية واقعنا السياسي.