أين المصلحة في التطبيع الآن ..؟

TT

أحاول جاهدا وبإخلاص والله، أن أجد سببا بريئا للتطبيع مع إسرائيل في الظروف الراهنة، فلا أجد. ومعيار البراءة عندي أن تكون هناك مصلحة للشعب الفلسطيني الذي اغتصبت أرضه وأهدرت حقوقه، أو للأمة العربية التي زرعت إسرائيل في قلبها فقلبت خرائطها السياسية وهددت أمنها القومي.

ما أثار هذا البحث عندي هو تلك الإشارات التي تتوالى في الأفق العربي والإسلامي ملوحه بأن رياح التطبيع بدأت تهب علينا، ومنذرة بأن الأمر يمكن ان يتحول إلى «تسونامي» يجتاح الأمة العربية، في موجات أخرى يتحدث الإسرائيليون عن أولاها ستكون قبل نهاية العام الحالي، وهو ما يعني أن ما كان يوما ما حراما ونجاسة سياسية ـ والوصف الأخير ليس من عندي ـ بات يشهد تراخيا وتراجعا انفتح في ظلهما باب الاجتهاد في المسألة، فالحرام صار مجرد وجهة نظر عند البعض وغدا مكروها فقط عند آخرين، وذهب فريق ثالث إلى تحليله، في حين انقلب الحال، وأصبح الثابتون على موقف الحرمة متطرفين وأصوليين في السياسة، ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، وإنما واكبت هذه «الاجتهادات» فتاوى صدرت عن بعض الرموز الدينية، أباحت التطبيع ووفرت للمطبعين سندا شرعيا انضاف إلى رؤاهم السياسية، وهو ما اقدم عليه شيخ الأزهر للأسف الشديد، حين قال كلاما بهذا المعنى في مصر قبل أسبوعين، وآثار زوبعة لم تهدأ بعد.

لا ينسى في هذا الصدد أن باب الاجتهاد في الموضوع انفتح على مصارعه بصورة تدريجية، في البدء كانت زيارة الرئيس السادات للقدس عام 77، وبعدها كانت اتفاقيات كامب ديفيد عام 78 ثم اتفاقيات أوسلو في 93، ثم اتفاقية وادي عرين في الأردن عام 94، وفي طور آخر دخلت المغرب وتونس من باب خلفي، وتبعتهما موريتانيا ولحقت قطر بالركب. وفي أجواء انتفاضتي 87 وعام 2000 هدأت أو توارت جهود التطبيع لبعض الوقت، في الظاهر على الأقل، ثم نشطت تلك الجهود على إثر إعلان شارون الانسحاب من غزة. وتسارعت بعد انتهاء الانسحاب، على نحو شجع المطبعين على حث خطاهم والكشف عن وجوههم، فشهدنا «المصافحة» بين وزيري خارجية إسرائيل وباكستان في استنبول، ودخلت إندونيسيا على الخط من خلال لقاء مماثل لوزير خارجيتها مع نظيره الإسرائيلي، وتسريب أنباء عن اتصالات مع ماليزيا. وفي نيويورك تمت لقاءات عربية إسرائيلية عدة، دافع عنها وزير خارجية قطر، وأعلنت البحرين عن رفع الحظر عن البضائع الإسرائيلية، وتواترت أنباء إسرائيلية نفتها سلطات الإمارات عن فتح مكتب في دبي يعد بصوره غير علنية وترددت أنباء أخرى عن احتمال زيارة العقيد القذافي إلى إسرائيل (نفيت بدورها)، ووجهت تونس الدعوة إلى شارون لزيارتها، بحجة المشاركة في مؤتمر دولي عن المعلوماتيه، كما أعلن رسميا عن زيارة سيقوم بها وزير خارجية إسرائيل إلى المغرب خلال أسابيع قليلة، وثمة إشارات ترمي إلى اتصالات غير معلنة جارية بين إسرائيل وبين السلطات في الجزائر واليمن والعراق.

هذه المعلومات تعني أن الكلام عن هبوب رياح التطبيع القوية، والكلام عن «تسونامي» آت في الطريق، ليس مجرد افتراض أو شائعات، ولكن له آثاره التي تدل عليه، وبالتالي فكلام وزير الخارجية الإسرائيلية عن تطبيع العلاقات مع عشر دول عربية وإسلامية قبل نهاية العام ليس مبالغا فيه ولا هو من قبيل التمني.

الملاحظة الأخرى في هذا الصدد أن تسويغ عملية التطبيع تطور، إذ في حين كان بعض السياسيين يتحدثون تارة عن انهم بمد جسور التعامل مع إسرائيل يحاولون الإسهام في حل «القضية» وإحلال السلام في المنطقة، فإن آخرين أصبحوا يقولون ان إسرائيل أثبتت حسن نيتها بالانسحاب من غزة، وينبغي ان تشجع على الاستمرار في الانسحاب من الضفة، ومكافأتها بالتطبيع خطوة في ذلك الاتجاه.

لكن فريقا ثالثا واتته الجرأة على القول بأن الحديث عن القضية عفا عليه الزمان، وأن العرب تحملوها كثيرا وقد آن لكل دولة أن تجري مصالحها الخاصة، وان ترسي مراكبها على الضفة التي تحقق تلك المصالح.

ثمة حقيقتان مهمتان ينبغي أن يوضعا في الاعتبار عند أي حديث يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل، الأولى أنها ما زالت حتى الآن تحتل كامل التراب الفلسطيني بما في ذلك غزة التي فككت المستوطنات بها فقط، وتتوسع في الاستيطان وتغير من الحقائق على الأرض وتواصل تهويد القدس، ونهب الموارد الفلسطينية وتحتجز في سجونها ما لا يقل عن 8 آلاف فلسطيني، وترفض عودة اللاجئين إلى ديارهم التي طردوا منها. بكلام آخر فكل عناصر «القضية» ما زالت كما هي، لم يتغير منها شيء وكل ما حدث أنها ظلت طوال الوقت تعمل على تجميل وجهها من خلال الإعلام، في حين تواصل سياستها الوحشية.

الأمر الثاني أن إسرائيل المدججة بالسلاح الذري، ما زالت تمثل التهديد الخارجي الأساسي للأمن القومي العربي، وما زالت تلعب دور شرطي المنطقة المهيمن عسكريا والمتطلع إلى الهيمنة الاقتصادية، وما زالت مساهما أساسيا في كثير من الاضطرابات والقلاقل المحيطة بنا، فقد كانت محرضا أساسيا على غزو العراق وطرفا ضالعا في ترتيبات الغزو وما زالت تحرض الجميع ضد إيران، ودورها لا ينكر في أحداث جنوب السودان، وفي كردستان وفي لبنان وثمة كلام عن علاقات لها مع متطرفي الامازيغ في الجزائر. ومعروف أن إسرائيل قدمت نفسها ابان سنوات الحرب الباردة بحسبانها القلعة الغربية التي تحرس المنطقة في مواجهة الشيوعية، وبعد انتهاء تلك الحرب فإن وظيفة القلعة الغربية تغيرت بحيث صارت المهمة هي حراسة المصالح الغربية في الإرهاب والتطرف الإسلامي.

أن العرب منذ ادركوا ابعاد الخطر الإسرائيلي اختاروا منذ اليوم الاول أن يقاطعوها سياسيا واقتصاديا وفشلوا في ثلاث حروب وفي حد خطرها الذي استفحل بمضي الوقت، بتأثير عوامل ثلاثة، أولها تنامي قدرتها الذاتية، وثانيها الدعم الخارجي القوي لها الغربي عامة والأميركي خاصة، وثالثها تردي الأوضاع العربية الذي انتهى بانهيار النظام العربي، ورغم ان العرب قبلوا بمبدأ الاعتراف بإسرائيل وبالحدود التي استولت عليها في عام 48، وأصبحوا يتحدثون عن إنهاء احتلالها للأراضي التي سيطرت عليها في عام 67، إلا أن اسرائيل تجاهلت هذا التطور وضربت به عرض الحائط، ومن ثم واصلت ابتلاع الضفة وتمسكت بسيطرتها على قطاع غزة، في البر والبحر والجو.

طوال الوقت كان ثمة إدراك عربي لحقيقة مقاطعة إسرائيل أضعف الأيمان في التعبير عن إنكار منطق الاحتلال، وان أي تصالح (تطبيع بأي صورة معها) من شأنه أن يقوي موقفها في مواجهة الفلسطينيين، وبالتالي يمكنها من إجتثاث الشعب والأرض وهذا التمكين يوفر لها فرصة الاستعلاء الذي يضرب طرفين في وقت واحد، فهو يهدر الحقوق الفلسطينية من ناحية ويرفع درجة تهديد الأمن القومي العربي من ناحية ثانية، بكلام آخر فان موقف المقاطعة العربي لا يغدو دفاعا عن الحق الفلسطيني المضيع فحسب، ولكنه يصبح أيضا دفاعا عن أمن الأمة العربية بأسرها.

هذا المنطق يستحق النظر من بعض مثقفي الاستسلام والانبطاح، الذين باتوا يروجون للإغراءات الإسرائيلية والأميركية التي تتحدث عن بشائر السلام والنوايا الإسرائيلية الطيبة، التي أثبتت الأيام أنها مجرد أوهام وبالونات أطلقت في الهواء للإلهاء أو الإبهار، وفي أجواء الهزيمة المخيمة على العالم العربي، والتي اسهم هؤلاء في تكريسها، فإن الأبواق الإعلامية التي تبث أفكارهم نجحت بصورة نسبية في تلويث عقول بعض البسطاء، وهو ما عبرت عنه مثلا رسالة نشرتها «الشرق الأوسط» في زاوية البريد «تاريخها 23/9» علق فيها أحد القراء على خبر زيارة القذافي لإسرائيل قائلا: ما المشكلة في ذلك، فقد وافقت إسرائيل على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية، وعلى إقامة الدولة الفلسطينية، وأطلقت سراح الأسرى والمعتقلين فيها، وهو تعليق _ إذا لم يكن مدسوسا فإنه يصيبنا بالصدمة ـ لأنه يعني أن صاحبنا وقع ضحية الأكاذيب التي تم ترويجها والأوهام التي تسوقها الأبواق الإسرائيلية في الداخل والخارج، ولو أنها حالة فردية لهان الأمر، ولكن المفجع حقا أن بيننا مثقفين وأنظمة عربية وقعت في هذا الفخ وتلك مصيبة إذا لم يكن هؤلاء يعرفون الحقيقة، أما إذا كانوا يعرفونها ويكذبون على شعوبهم وعلينا فالمصيبة لا ريب تصبح أعظم.

إننا إذا أردنا ان نكون صادقين في قراءة الواقع وتحليله، فينبغي أن نعترف إن أي تطبيع يتم الآن مهما كانت صورته لا يخدم سوى المصلحة الإسرائيلية بالدرجة الأولى، وربما خدم بعض الأنظمة الحريصة على التودد لواشنطن أو الاستماع لها.