طريقة أخرى للتفكير في القضية..!

TT

لم يكن قد مضى كثير من الوقت بعد الهزيمة التي لحقت بالعرب في الحرب الأولى مع إسرائيل عام 1948 عندما كتب دافيد بن جوريون ـ أول رئيس لوزراء الدولة العبرية ـ في يومياته أحد أيام صيف 1949 ما يلى: «إنه لا يجب تصور أن الحرب قد انتهت... ففيما يتعلق بحقائق الجغرافيا السياسية الأساسية، فإن الحالة خطيرة للغاية، والأمن سيظل هما أساسيا للدولة... إننا يجب أن نضع جيراننا ـ العالم العربى بالذات ـ في حسابنا، وأنهم يشكلون خطرا عظيما. إنه عالم موحد فيما يتعلق باللغة والدين والثقافة، ونحن عنصر غريب. وربما تكون هناك رغبة في الانتقام، والرابطة مع الصليبيين سوف تعمل أثرها؛ إن نصرنا لا يجب أن يكون مؤشرا على المستقبل».

هذه الفقرة ـ مع تعديلات طفيفة ـ كان يمكن أن يكتبها واحد من الزعماء العرب، أو المحللين والمراقبين العرب، أو واحد من التلاميذ العرب في صفوف دراسية ممتدة من المحيط إلى الخليج؛ فإسرائيل لا تزيد عن كونها عنصرا غريبا دخل بالقوة أحيانا وبالحيلة أحيانا أخرى إلى جسد عربي هائل الحجم، يترابط كله بمجموعة من الحقائق المعروفة، وبالتالي فإنه لا مفر من انتفاض هذا الجسد يوما للفظ العنصر الغريب. وإذا ترجمنا كل ذلك إلى لغة الاستراتيجية فإن قوة العرب المحتملة والمجتمعة هي هائلة بكل المقاييس الخاصة بالسكان والمساحة والعناصر الطبيعية، أما إسرائيل ـ العنصر الغريب ـ فستظل لقوتها الفعلية ـ أي الحاضرة في ميادين القتال أو الدبلوماسية ـ حدود وسقوف. ومن هنا صارت القضية هي قدرة العرب على تحويل ما هو محتمل إلى ما هو فعلي عندما تصل إسرائيل إلى نهايات قوتها، فينقلب التوازن في القوى والقدرات، وما بعد ذلك يصير نوعا من التفاصيل التاريخية التي شهدت نهاية الحالة الصليبية في قلب الوطن العربى وفي فلسطين تحديدا.

هذه الترجمة الاستراتيجية لقراءة الحالة العربية ـ الإسرائيلية أصبحت خطة لدى إسرائيل قوامها أن تبقى القوة الفعلية للدولة العبرية دائما أعلى من كل القدرات العربية، وأن تبقى القوة المحتملة العربية دائما محتملة وغير قادرة على التأثير في الواقع. وفي العالم العربي ظلت «القوة المحتملة» مراوغة ومغرية بالصمود حتى تأتي اللحظة التي يحدث فيها الانقلاب الاستراتيجي، ومن ثم بقيت فكرة الاتفاق والسلام نوعا من العار الذي لا يجب القبول به أخلاقيا واستراتيجيا، حتى ولو كانت له دواع تكتيكية في بعض الأحيان نتيجة الهزائم المتتابعة. وحتى عندما كان بعض القادة العرب يعلنون بصخب عن أن السلام هو «الخيار الاستراتيجي» كان معنى السلام هو أن تنسحب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، ولو تم ذلك اليوم فإن مطلبا عربيا آخر سوف يكون جاهزا، وهو ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين خرجوا من فلسطين عام 1948 مع عائلاتهم فتنتهي موضوعا فكرة الدولة العبرية. وكان هناك أمران معلقان في النظرة الإسرائيلية والنظرة العربية في الموضوع، الأول منها العلاقة مع الزمن حيث كانت وجهة النظر العربية أن الأيام والسنوات سوف تحقق التقدم العربي والوحدة العربية حتى يصير المحتمل فعليا؛ وكانت وجهة النظر الإسرائيلية هي أن الزمن عنصر محايد لمن يعمل فيه ويستغله ويعرف كيف يتجنب المخاطر وينتهز الفرص. والثانى منها يتعلق بالحق والعدالة في الموضوع، وكانت وجهة نظر العرب أن الحقوق والعدالة لا بد وأن ينتصرا في النهاية، وكانت وجهة النظر الإسرائيلية أن الحقوق والعدالة مسائل نسبية ولكنهما يكتسبان معنى في الواقع فقط عندما يلتحقان بعناصر القوة الفعلية، أما في حالة القوة المحتملة فإن الحقوق والعدالة تظل محتملة كذلك.

وعلى مدى ستة عقود تقريبا كان منطق بن جوريون هو الذي يحكم العالم العربي، ونجحت إسرائيل في صياغة الصراع على أساس «القوة» التي برعت في تحقيق تراكمها، والأهم إجادة استخدامها. وعلى الجانب العربي كان التخلف ضاربا إلى الدرجة التي جعلت القوة المحتملة إما دائما محتملة، أو أنها عندما تغيرت لكي تكون فعلية، فإنها ظلت دائما وراء القدرات الإسرائيلية بمراحل كبيرة. والأخطر أن إسرائيل عرفت أن الغرب هو مصدر القوة التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية في العالم، فكانت معه عندما كانت الحرب الباردة «مشتعلة»، وكانت مع القطب الواحد عندما أصبح منفردا بقمة العالم، وكانت معه عندما جاء صراع الحضارات. أما العرب فكانوا ـ أو كان الأعلى صوتا منهم ـ مع الجانب المهزوم في الحرب الباردة، وعندما أصبحت أميركا هي القوة العظمى الوحيدة كان العالم العربي يبحث في روسيا والصين والهند وأوروبا عمن يناوئها ويعيد الأعوام السعيدة للحرب الباردة، وعندما هلت رياح صراع الحضارات كان العرب ـ أو بعضهم ـ يقف أمام الغرب باحثا عن الحدود الفارقة بين الإرهاب والمقاومة.

هذا المنطق العربي الراسخ في الذهن، والمهيمن في السياسة، والشائع في الإعلام، لم يكن ممكنا له أن يناسب حالة كل دولة عربية على حدة. فالقوة المحتملة لدى العرب أجمعين حلم من الأحلام السعيدة، ولكن الحقيقة السياسية الثابتة هي الدولة العربية بمواطنيها واحتياجاتها ومصالحها، ولذا كان الخروج على الإجماع حتميا فيما يخص أكبر دولة عربية سكانا لأن احتياجاتهم لا تستطيع الانتظار لساعة التحول من المحتمل إلى الفعلي في زمان قادم لا يعرف له أحد يقينا. ولكن تعدد الخروج على الإجماع لم يفت في عضد أنصار المنطق الشائع، وتحولت مناسبات الاتفاقيات العربية الإسرائيلية، واللقاءات العربية ـ الإسرائيلية إلى مناسبات للحزن العام، ولطم الخدود وشق الصدور. وفي الأسابيع الأخيرة تفاقم الوضع مع نمو العلاقات الباكستانية ـ الإسرائيلية، والاندونيسية الإسرائيلية، وعندما جرت جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة وجاءت لقاءات وزير الخارجية الإسرائيلى مع وزراء خارجية عرب ومسلمين، بدا كما لو كانت السماء قد انطبقت على الأرض.

ولكن ما جرى ويجري قد يكون دافعا للبحث عن طرق أخرى للتفكير في حل القضية الفلسطينية تختلف عن الطريقة التي تصورها بن جوريون والنخبة السياسية العربية كلها، ولا بأس حتى من الاستفادة من دروس فترة الحروب الصليبية. فمسيرة الصراع العربى ـ الإسرائيلي لا تقول فقط بتوسع إسرائيلى ممتد طوال الوقت حتى وصلت جيوشها إلى القنطرة والقنيطرة، وإنما أيضا بانكماش إسرائيلي من كل سيناء، وكل الجنوب اللبناني، وبعض من الجولان، وأجزاء من فلسطين، وأراض لبنانية محتلة. هذه الأراضي جرى الجلاء عنها ليس لأن القوة العربية المحتملة أصبحت فعلية، وإنما لأن العرب عرفوا أولا كيف يستغلون ما لديهم من قوة، وعرفوا ثانيا كيف يقدمون مشروعا مقنعا للسلام للجانب الآخر يقوم على تحرير الأرض المحتلة عام1967 واقتسام فلسطين، وعرفوا ثالثا أن يستخدم هذا وذاك بتوافق ورضاء من الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأميركية التي قد نحبها أو نكرهها ولكنها كانت هناك في كامب دافيد، وكانت هناك في وادي عربة، وكانت هناك في واشنطن، عندما وافق رئيس وزراء إسرائيلي على الانسحاب من أراض فلسطينية مغتصبة. هذه الطريقة في التفكير قد تكون معقدة قليلا، ولكنها منتجة كثيرا، أو على الاقل منتجة بأكثر من الانتظار حتى تصبح القوة المحتملة قوة فعلية كما حلم العرب، وخاف بن جوريون!