شيعة العراق: أبناء المراجع.. أبواب الآباء ولسان حالهم

TT

من تقاليد المرجعية الدينية الشيعية بالنجف، وغيرها من نواحي العالم، أنها لا تورث. وليس لها نظام انتخابي، أو تعيين بعد وفاة المرجع الأكبر. فلا دخان أبيض يخرج من مداخن النجف، ولا مؤتمر يعقده كرادلة المذهب. بل تتحقق الخلافة، مثلما هو معلوم، بانسيابية مثلى. يبرز المرجع الخلف في حياة المرجع السلف بأعلميته، وتلقائياً تجده البارز بعد وفاته. ومعلوم أن وراثة المنصب من حق الأئمة فقط. لكن هناك شواذا عن القاعدة. ففي المرجعيات المعاصرة خلف الشيخ موسى كاشف الغطاء (ت 1827) والده الشيخ جعفر الأكبر (ت 1813)، وخلفَ الشيخان علي (ت1837) وحسن (ت 1846) أخاهما موسى.

غير أن هذا لم يأت من باب الوراثة بل من باب العلم والاجتهاد، فآنذاك ليس هناك أعلم وأنسب من هؤلاء الثلاثة لخلافة والدهم. كذلك خلف الشيخ محمد مهدي الخالصي الابن (ت 1963) مرجعية والده الشيخ محمد مهدي الخالصي (ت 1925). ويبدو أن أسرة الخالصي، المحصورة مرجعيتها بمنطقة الكاظمية، حاولت أن تجعل الأمر وراثياً. وللخالصي الابن رأي مغاير في ثوابت التشيع أغضبت علماء آخرين، قلصت من مرجعيته، تجد منها في كتابه «علماء الشيعة والصراع مع البدع والخرافات الدخيلة في الدين».

بطبيعة الحال، أقرب الأتباع للمرجع هم الأبناء، ويبرز عادة الأكبر سناً، أو الأكثر قرباً من الأب. يصاحبه في حله وترحاله، وهو سفيره إلى أعيان الدولة، وكاتب فتاويه، ولسان حاله. ولا يشمل التقليد الأبناء الأفندية، من المتمردين على الدراسة في الحوزة، واعتمار العمائم. كان الخالصي الابن ظل الأب أثناء ثورة العشرين، ولسان حاله ببغداد. ومستشاره وهو بالمنفى أيضاً.

كذلك برز السيد مهدي الحكيم (قتل 1988) ناطقاً بلسان والده آية الله محسن الحكيم، وسفيراً بينه وبين الدولة. وتولى تلك المهام أيضاً أخوه السيد محمد رضا الحكيم، الذي يتداول النجفيون الحديث عن انتمائه البعثي في فترة من الفترات، ويظهر في إحدى الصور مستقبلاً رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، وهو يقف إلى جانب سرير والده المريض. وقد قُتل بالتصفيات البعثية التي طالت آل الحكيم في ما بعد. وينقل الدكتور محمد مكية: أن السيد مهدي الحكيم كان متنوراً، وينظر إلى المجتمع نظرة بشفافية ومعاصرة. ويرى أن العراق افتقد شخصاً قريباً إلى الجميع، وكان همه مواجهة الفقر والجهل. وهو أبرز المفتقدين في الأداء الشيعي المتعثر اليوم.

وكان باب آية الله الخوئي ولسان حاله ابنه، الذي توفى في حياته، السيد جمال الدين الخوئي. ثم حل محلة ابنه السيد محمد تقي الخوئي. وقد صحب والده عند اختطافه من قبل قوات الأمن في العهد السابق لمقابلة صدام حسين. وهي حالة شاذة في تقاليد المرجعية، فقد جرت العادة أن المراجع يُزارون ولايزورون. ثم قتل الابن بحادث سير مدبر (1994). وكان يحمل بذرة الاجتهاد، وله من الكتب والمدونات المنشورة. وبجهوده تم تأسيس «مؤسسة الإمام الخوئي الخيرية»، مركزها بلندن، ولها فروع في أنحاء العالم. لكنها نكبت بقتل الابن الأصغر، أمينها العام السيد عبد المجيد الخوئي بعد عودته إلى النجف (ابريل 2003) بأسلوب شنيع، وما زالت القضية تنتظر ظرفاً سياسياً مناسباً لتنفيذ حكم القضاء في الجناة.

وأخيرا برز السيد محمد رضا السيستاني، كباب ولسان حال لأبيه آية الله علي السيستاني. حيث عاش العراقيون في التيه، بلا دولة ولا جيش ولا شرطة ولا شخصية يلتفون حولها كافة، وسط غياهب من الأزمات والأحزان. لذا توجهت الأنظار صوب المرجعية الدينية. برز السيستاني الابن بروزاً مكثفاً عبر أخبار العراق: استقبال وتوديع الوفود، والتصريحات، والرسائل، والفتاوى الصادرة من مكتب الأب، وفي المداولات التي قادت إلى تشكيل قوى قائمة الائتلاف الشيعي، ثم الاختلاف والاتفاق على تسمية رئيس الوزراء.. الخ.

وأشهر الفتاوى التي نقلها محمد رضا عن والده فتوى الانتخابات، وتأكيد المرجعية عليها، بل اعتبارها أمراً مصيرياً، إلى درجة أنها أحرجت الأميركان، فذهبوا إلى تكريس جهودهم من أجل إنجاحها، في الوقت الذي شددت من موقف هيئة علماء المسلمين ووجهاء أهل السُنَّة، بعد الشعور باندفاع المرجعية الشيعية علناً نحوها. أما الفتوى التي جاءت على لسان السيستاني الابن باسم الأب، وأحدثت لغطاً بين القوى السياسية المشاركة في الانتخابات، فهي فتوى تأييد قائمة الائتلاف رقم 169، والتي اعتبر فيها غير المنتخب لهذه القائمة أنه سيواجه حكم الله في الآخرة! وبجهود السيستاني الابن، ولا ندري ما هو قدر التنسيق مع الأب، رفعت صورة آية الله السيستاني كدعاية انتخابية، مما أغضب العديد من علماء الدين من غير قائمة الائتلاف، وفي مقدمتهم السيد حسين الصدر، والذي أصر أن لا صلة للسيستاني بالأمر.

أشار العارفون بالأمور من أن السيستاني الابن لعب دوراً خطيراً في العملية السياسية باسم الأب: تقريب هذا وأبعاد ذاك من التحالفات الانتخابية. والعمل مع ورشة تخطيط لتحقيق ولاية فقيه غير معلنة، عبر بعض مواد الدستور. بل أشاروا إلى تجوال عدد من المبلغين باسم المرجعية بين نواح العراق الشيعية يبلغون برسالة المرجع، ولعله ابن المرجع، في شأن التأكيد على انتخاب القائمة المصطفاة، بدلاً من النشر في وسائل الإعلام.

عموماً لعب وسيلعب السيستاني الابن باسم الأب دوراً في حياة العراقيين السياسية، فلا يصل وفد إلى حضرة المرجع دون المرور على الابن. ولا فتوى ورسالة تصدر دون استشارة وموافقة الابن. ومن هنا تقاس مسؤوليته تجاه منزلة المرجعية الروحية، وتجاه العراقيين كافة. إن قوة المرجع من قوة ظله الروحاني، فإذا تعدى ذلك إلى شكل من أشكال الولاية الفقهية، والتدخل في الدولة فإن الصغيرة والكبيرة ستحسب عليه، وربما تقلص الظل الوارف إلى عتبة الدار. وآية الله السيستاني كما وصفه بطريرك الكلدان الأب عمانوئيل دلي: أنه يعمل من أجل الله وخير العراق.

والسؤال، هل وضع الابن أمام الأب، وهو بابه الموصود وثقته، دقائق الأمور، أم له تنسيق آخر، خصوصاً والعراقيون قادمون على استفتاء الدستور، وانتخابات ثانية ستسفر عن حكومة دائمية؟