لبنان : الحرب المطلوبة والفتنة الممنوعة

TT

ما نتمناه هو الا يطلب القاضي الالماني ديتليف ميليس رئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، تأجيلاً جديداً لإصدار تقريره، لأن ذلك قد يتيح للساعين الى إعادة إشعال حرب أهلية في لبنان، تحقيق النجاح الفعلي.

عندما اشتعلت الحرب في لبنان عام 1975، رافقها اغتيال شخصيات سياسية ودينية وعسكرية كثيرة، كانت ردود فعل المسؤولين اللبنانيين في كل المراحل، على عمليات الاغتيال لا تتجاوز عبارات التنديد وأحيانا كثيرة الترحيب. لم يحدث ان طالب احدهم بإصرار على إجراء تحقيق قضائي يسير حتى النهاية، للكشف عن مرتكب او مرتكبي الجريمة. كان اللبنانيون منقسمين، يتقاتلون ويتحالفون مع قوى غير لبنانية ضد بعضهم البعض. ولو انه جرى تحقيق لمعرفة قاتل واحد ومعاقبته، إن في زمن الحرب او في الفترة التي تلت اتفاق الطائف، ما كان اللبنانيون دفعوا ثمناً غالياً جداً لا يمكن تعويضه وهو اغتيال رفيق الحريري. كانت الاعذار السابقة انهم محكومون وليسوا احراراً، وكانوا ايضاً يتسابقون على إرضاء المشكوك فيه بأنه ارتكب فعل القتل.

عندما قُتل بشير الجميل وكان انتخب رئيساً للبنان، قال زعيم احد الاحزاب الوطنية آنذاك، انه عند سماعه الخبر شعر بالسعادة والحزن معاً، السعادة لأن بشير الجميل قُتل، والحزن لأنه لم يكن هو قاتله. هذا الموقف لم يشفع له ولم يمنحه صك الانقاذ، إذ انه قُتل لاحقاً. وعندما عزلت الاحزاب الوطنية اللبنانية آنذاك والأطراف الفلسطينية، من اسمتهم اليمين الانعزالي المسيحي اللبناني، وتعهدت جميعها على قتال احزاب ذلك اليمين، قال أحد اقطابها، ان توقعاته كالتالي خصوصاً في ما يتعلق بالموارنة: سيُقتل منهم الثلث، ويهاجر الثلث الآخر، اما الثلث المتبقي فسوف يُضطر لإشهار إسلامه. وتعهدت هذه الاحزاب والأطراف على تطبيق الخطة، لكن واضعها ذاته، قُتل على يد «الراعي» الاكبر خلال تلك السنوات. وعندما قُتل مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، صدرت بعض الاستنكارات الخافتة، كذلك الامر عندما قُتل الشيخ صبحي الصالح، والمستشار الرئاسي محمد شقير، والرئيس رينيه معوض، اما عندما اغتيل كمال جنبلاط الزعيم الدرزي فإن طائفته انتقمت له من موارنة الشوف رغم انهم لم يكونوا القتلة. وجرت محاكمة قتلة رئيس الوزراء السابق رشيد كرامي بطريقة مركّبة، وكان يمكن ألا تحصل لو ان سمير جعجع قد وافق على الاشتراك في الحكومة يومها. رفضه سبب تفجير إحدى الكنائس

(سيدة النجاة)، ومن ثم اتهامه باغتيال كرامي. وقُتل آخرون لم يشفع لهم لا ولاء ولا تعاون، مثل ايلي حبيقة الذي لم يُقتل بسبب مجزرتي صبرا وشاتيلا، بل اصبح وزيراً وكاد ان يصبح رئيسا للجمهورية كعقاب للبنانيين.

كان الاتهام يوجه في كثير من الاحيان الى إسرائيل، ولأن المسؤولين اللبنانيين والأوصياء عليهم كانوا مشغولين بـ«حماية السلم الاهلي»، لم تكن لديهم القدرة الاضافية على ملاحقة «القتلة الاسرائيليين»، فكان يتم إخفاء معالم الجرائم، لأن منظرها بشع ولا وقت للملاحقات.

لو ان تحقيقاً واحداً جرى لمعرفة ومحاكمة مرتكب جريمة اغتيال واحدة، ما كان اغتيل رفيق الحريري، لأن اوضاع لبنان كلها كانت اختلفت. ومنذ اغتيال رفيق الحريري وما تبعه من تغييرات جذرية، ما كان لبناني يتخيّل انها ستقع على زمانه، حتى بدأ مسلسل التفجيرات وكلها استهدفت المناطق المسيحية. عندما تكررت، ردد بعض العارفين انها عقاب للمسيحيين الذين زحفوا منازلهم واعتصموا امام ضريح رفيق الحريري، وجاءوا حتى بالزوارق عندما سدت الجموع الطرقات، للمشاركة في تظاهرة 14 آذار (مارس)، وقال هؤلاء، إن الصيغة اللبنانية قامت على تحالف سني ـ ماروني، وان 14 آذار اعاد إحياء تلك الصيغة، ويجب بالتالي إعادة نسفها. ولو ان السلطات اللبنانية أخذت الامر جديا، ما كان هذا المسلسل حصد الى جانب الخسائر الاقتصادية والرعب الذي نشره بين الناس، ما حصد من الارواح وعلى رأسها سمير قصير، وجورج حاوي، وأخيرا محاولة اغتيال زميلتنا مي شدياق. مسلسل التفجيرات والاغتيالات فشل في قتل وزير الدفاع الياس المر وفشل في قتل مي، ولا يُعتبر هذا الفشل فشلاً للخطة الموضوعة، وهناك من يقول ان فشل محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة دفعت الذين خططوا لتلك العملية، الى مضاعفة كمية المتفجرات وإحكام الخطة جيداً في اغتيال رفيق الحريري، كي لا ينجو.

الوزير حمادة بعد محاولة اغتياله، لم يكف عن اتهام سوريا وتحدي الاجهزة الأمنية اللبنانية والسورية، وكذلك كان موقفه بعد محاولة اغتيال مي شدياق. اما الوزير المر فقد ظل صامتاً، ولم يكشف عمّا تعرض له إلا بعد الذي وقع لمي شدياق، اذ تأكد بأن مسلسل الاغتيالات سيستمر، انطلاقاً من كل ما يعرفه بحكم منصبه وعلاقاته السابقة، فهو اعترف بأنه تعرّض للتهديدات من «ممثل سوريا في لبنان» رستم غزالي بعد اكتشاف شبكة إرهابية العام الماضي، تحضّر لعمل إرهابي ضد السفارة الايطالية. هو ظل حينها صامتاً رغم ما تسرب من أنه تعرّض للعقاب إثر الكشف عن تلك العملية، والشكر الذي تلقاه من السفارة الايطالية والزيارة التي خصّه بها السفير الاميركي في لبنان يومها فنسنت باتل، بعد التهديدات سافر المر الى باريس.

الخروج السوري من لبنان لم يعن أن صفحة طويت بين البلدين، لأن الضغوط التي تتعرض لها سوريا حسب اعتقاد بعض قيادييها، لا يمكن تخفيفها إلا إذا اشتعلت حرب اهلية مسيحية ـ اسلامية في لبنان. وحسب مصدر دبلوماسي لبناني، جرى الحديث معه قبل التفجير الذي وقع في منطقة الاشرفية، والمحاولة التي استهدفت مي شدياق، فإن هناك من يريد رد الصاع صاعين للبنانيين والذين يدعمونهم في العالم خصوصاً فرنسا والولايات المتحدة، وتوريطهم في حرب اهلية، كي «يعرف العالم ان هذا اللبنان لا يمكن تركه من دون وصاية سورية بالذات». وقال الدبلوماسي اللبناني، إنه يجب توجيه الشكر الى حلفاء سوريا في لبنان الذين لم ينجرّوا اكثر حتى الآن.

اما الهدف من التفجيرات فكان دفع بعض الفئات المسيحية الى العودة الى حمل السلاح بحجة الدفاع عن النفس. لم تجد التفجيرات رد الفعل المطلوب، فأصحاب البيوت التي تهدمت والمحلات التجارية، تم تخفيف حنقهم وغضبهم وأيضا مواساتهم للانصراف الى إعادة بناء ما تهّدم في ظل وضع اقتصادي صعب. لكن الاسئلة بدأت تُطرح بصوت عال: الى متى؟

في هذه الاثناء تضاعف الكلام عن ضرورة الحفاظ على سلاح حزب الله بصفته سلاح المقاومة، وكذلك عن استقالة رئيس الجمهورية اميل لحود. اللافت أن أبرز المطالبين باستقالة لحود هو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي حدد شروط من يستحق بنظره ان يكون الرئيس المقبل، «بأن تكون مواصفاته وثوابته الحفاظ على الطائف والعروبة وحماية المقاومة والعلاقة المميزة مع سوريا بغض النظر عمن يحكم سوريا اليوم»، وقد رد عليه الكثير من اللبنانيين: «انما هذه هي المواصفات والثوابت التي لم يحد عنها اميل لحود الى درجة تهميش الجيش النظامي».

ثم جاءت محاولة اغتيال مي شدياق، الكل ندد بالعملية التي تستهدف حرية الصحافة والإعلام، لكن مي شدياق تمثل مواقف شريحة من الرأي العام التي تدين بولاء لـ «القوات اللبنانية»، وهي تعمل في المؤسسة اللبنانية للارسال (ال.بي. سي)، التي اسستها القوات اللبنانية، ولأن القوات اللبنانية اضطهدت لسنوات، لا بد بالتالي من تحريك «غضب الشباب»، لذا تم استهداف صوت ينطق باسمهم.

يوم الأحد الماضي في برنامج «نهاركم سعيد»، لم تكن تلك المرة الاولى التي تنتقد فيها مي المواقف السورية، ربما تجاوزت في احد اسئلتها الخط الاحمر الذي بسببه قُتل الصحافي الكبير سليم اللوزي، وطال الاغتيال لاحقاً نقيب الصحافة اللبنانية رياض طه. لسنوات ظلت مي تعتمد هذا الموقف، مما يعني انها تحولت الى «احتمال» لأن يفقد بعض الشباب رباطة جأشه، وما قد يكون عجّل في تنفيذ الخطة، التحقيق الذي قدمته الـ «ال.بي. سي»، عن تدفق مسلحين فلسطينيين تابعين للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، من سوريا الى مناطق لبنانية، طبعاً ليس بقصد الاستجمام.

الاحد الماضي ايضاً، كرر حزب الله على لسان رئيس المجلس التنفيذي للحزب هاشم صفي الدين، الاستمرار في طريق المقاومة «وحفظ سلاحها حتى لو انسحبت اسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

إن اشتعال حرب أهلية في لبنان، اذا نجح المخطط، سيبرر لحزب الله الاحتفاظ بسلاحه، اقلّه لحماية مناطقه، لأن قادته يعرفون ان كل الاقاويل غير مقنعة، وتحذير الحزب انه «لا يجوز لأحد في لبنان ان يتنازل عن المقاومة من دون اي مقابل يحفظ لنا بلدنا وانجازاتنا وكرامتنا ومستقبل وطننا»، تحذير في غير محله، لأن مسلسل التفجيرات والاغتيالات المستمر في لبنان يشوّه «بلدنا وانجازاتنا وكرامتنا ومستقبل وطننا»، وهدفه إشعال حرب اهلية، وبصراحة اكثر، يقول بعضهم: ان من الافضل اشتعال حرب اهلية، لأنها ستلغي اي فتنة من نوع آخر، خصوصا مع ما يجري في العراق، وما سيكشف عنه تقرير ميليس.

إن عمليات الاغتيالات والتفجيرات ستستمر، لأن السباق الآن هو بين النجاح في إشعال الوضع في لبنان، وبين نتائج تقرير ميليس، وطالما ان الجيش ممنوع من الانتشار في الجنوب، فلماذا لا ينتشر في المناطق الآهلة بالسكان المعّرضين للموت والمنتظر منهم ردة فعل دموية، أليس نشر الجيش افضل من دفع البعض لطلب الحماية الدولية؟ إن لبنان مكشوف أمنياً ومعّرض للخطر بالفعل لا بالقول.