أهل الهوى!

TT

لإخواننا على الضفة الأخرى من البحر، أهل السودان، وصفة شعبية ظريفة لكل من يبحث عن الشهرة أو المال أو كلاهما معا، وهذه الوصفة تتلخص في قولهم: «يا تعزف وتر، يا تدق كفر»، وهم يقصدون إما أن تكون لاعب كرة قدم أو ممارسا للموسيقى والفن بصورة عامة.. سمعت تلك الوصفة وأنا مراهق أشتاق إلى شيء من المال والشهرة، فأحرقت تلك الوصفة سنوات العمر، لم أفلح خلالها أن أعزف على العود سوى أغنية وحيدة يقول مطلعها:

ياهل الهوى ما ترحموني ... إما ارحموا وإما اتركوني

وقد استمع والدي بالصدفة إلى تلك الكلمات فخشي على ابنه من الغرق المبكر في الهوى، فآثر أن يكسر العود على رأسي ليريح ويستريح. وقد عظم عليه الأمر أن يرى ابنه المراهق يغني للهوى ويستجدي رحمة أهله في زمن كان فيه كبار الفنانين لا يجرأون على البوح بالغناء العاطفي، ويحتالون على المسألة بالتغني بالقمر والنجوم والحمام واليمام والورد والبنفسج و«شجرة الزنجبيلة» و«بابور الهند».

أما الشطر الآخر من الوصفة المتمثل في كرة القدم، فقد أهدرت على مذابح تلك الساحرة آلاف الساعات دون جدوى. وحينما اشترط النادي لتسجيلي وجود دفتر هوية مستقل، استفدت من عمري المطاطي، فزدت المسألة عددا من الأعوام دفعة واحدة، وأنا أسكب على مسامع موظف الأحوال المدنية الذي سألني عن عمري معزوفتي التقليدية: «تقول أمي إنني أكبر من بنت الجيران بعام، وأصغر من ولد الجيران بعام، لكن لا ولد الجيران يعرف تاريخ مولده ولا بنت الجيران، فالتاريخ في ذلك الزمان لم يكن يتسكع في الأزقة والحواري، ولا يهتم بغير مواليد الأعيان، وأبي لم يكن من هؤلاء، كان ملاحا بسيطا يجوب البحار، شراعه غيمة بيضاء يسكنها الريح والشوق والموال». وحسنا فعل الموظف، فبدلا من أن يتعب نفسه في مراجعة تاريخ بنت الجيران وأوراق ولد الجيران آثر أن يقتنع بما قلت، وكتب في الدفتر الصغير: «من مواليد سنة ما حفروا البحر!».

وبعد سنوات من الجري خلف الكرة، خرجتُ من كل ذلك بقبض الريح، فلم يتحقق لي شيء من نجوميتها، ولم يدخل جيبي بعض من بريق دراهمها. وانا أعتب الآن على إخواننا السودانيين بأن وصفتهم تلك كانت مضللة لمن هم مثلي؛ لا يمتلكون أذنا موسيقية ولا عضلات ساق قوية، وأحمّلهم مسؤولية وصفتهم تلك تعويضا عن ثمن العود وركض السنين في الملاعب، ذلك الركض الذي لو كان على خط مستقيم فلربما خفف بعض حزني أن اكتشف أن الأرض كروية، وأنني قد عدت من حيث بدأت!

[email protected]