موريتانيا في منعرج التغيير

TT

دخلت موريتانيا منعرجا حاسما في تاريخها المعاصر بالتحول الأخير الذي ازاح الرئيس ولد الطايع من مقعد الحكم الذي حافظ عليه أكثر من عشرين سنة.

وباعلان العفو العام عن المساجين السياسيين واللاجئين في الخارج الذين رجعوا للبلاد هذا الأسبوع انبثقت فرصة نادرة لاعادة دفع وتنشيط الديناميكية السياسية المتعطلة من جراء الأزمات الحادة والمتلاحقة التي طبعت الاعوام الاخيرة من حكم ولد الطايع. والواقع ان هذه الفرصة تماثل الى حد بعيد فرصتين سابقتين في عهدين ماضيين، وان كانت مغايرة من حيث الخلفيات والظروف الخاصة داخليا وخارجيا.

أما الفرصة الاولى فهي المصالحة السياسية شبه الشاملة التي تمت عام 1975، بين الرئيس الاول لموريتانيا المختار ولد داداه وقوى المعارضة المتمحورة حول الحركة الشبابية والطلابية. وقد التأم عقد المصالحة بعد استجابة ولد داداه لعدد من المطالب الجوهرية التي رفعتها المعارضة، مثل مراجعة الاتفاقيات الدفاعية مع فرنسا، وانشاء العملة الوطنية (الأوقية) وتأميم شركة الحديد (ميفرما).

وقد سمح التوافق المذكور باحتواء الاحتقان الداخلي الذي طبع السنوات الاولى من السبعينات، كما انعكس بوضوح على الخط السياسي والايديولوجي للحزب الوحيد القائم اوانها (حزب الشعب الموريتاني) الذي رفع الشعار الاشتراكي وتبنى الخطاب التقدمي الثوري بعد اندماج قادة التيار الشبابي اليساري فيه.

بيد ان حرب الصحراء التي اشتعلت في نهاية السنة ذاتها (1975) قد قضت على هذا الأمل الناشيء، واعادت البلاد بسرعة الى اجواء الاحتقان والتأزم، فانتهت بتقويض النظام بانقلاب عسكري عام 1978، كان هو الاول ضمن سلسلة من الانقلابات المتتالية عرفتها البلاد.

أما الفرصة الثانية، فقد تولدت عن انقلاب 1984 الذي حمل الرئيس السابق ولد الطايع للسلطة، بعد سنوات خمس من الاحتقان السياسي الشديد، تعرضت فيها مختلف الوان الطيف السياسي للقمع والتنكيل والتشريد.

وقد بدا أوانها ان النظام الجديد عازم على تحقيق تعهدات القيادة العسكرية التي اعتلت السلطة عام 1978 من بناء ديمقراطية تعددية وتقويم الاقتصاد المنهار، فأطلق المساجين وأعاد المنفيين، وشرع في السماح بتجربة انتخابية أولية على مستوى البلديات الحضرية والريفية.

إلا ان حلم الخلاص والاصلاح لم يدم طويلا، فدخلت البلاد أزمتها السياسية الحادة الاولى في نهاية سنة 1987، باكتشاف مخطط انقلاب وشيك كانت تعتزم الحركة القومية الزنجية المعروفة بفلام (الشلعة) القيام به.

وبعد أقل من سنتين من هذه الهزة الاولى، اندلع النزاع السنغالي ـ الموريتاني في ابريل 1989، الذي كان حدثا جسيما وحاسما بكل المقاييس، ترك أثره المكين على الاوضاع الداخلية للبلاد، وعلى علاقتها بمحيط جوارها الافريقي، وخلف آثارا بعدية متفاقمة، لا تزال تشكل الى اليوم بؤرة توتر دائمة (ملف المبعدين اللاجئين في السنغال وتصفيات الضباط الزنوج في بداية التسعينات).

ومع ان اعلان الديمقراطية التعددية بضغط خارجي قوي قد سمح بتخفيف نسبي لحالة الاحتقان السائدة، بل تحولت آلية الانتخاب والتمثيل الى أداة من أدوات التحكم في الحراك السياسي عبر اجراءات ادارة الزبائنية السياسية، ومضايقة واقصاء الخصوم وتطويع الادارة والقضاء.

ولئن كانت هذه الاستراتيجية قد سمحت للنظام بتفتيت المعارضة واضعافها، إلا انها افرغت العملية الديمقراطية من مضمونها، وفسحت المجال امام آليات التغيير والاحتجاج الخارجة عن نطاق التحكم والشرعية، فكانت حركة التمرد العسكري في يونيو 2003، التي تلتها محاولات انقلابية متتالية، قبل ان تدخل المؤسسة العسكرية لوضع حد لأزمة سياسية وأمنية بدأت تطال كيان البلد ذاته.

وهكذا انبثقت الفرصة الثالثة لدفع المشروع الوطني الموريتاني واعادة شد لحمته. وتكمن دون شك خصوصية هذه الفرصة الجديدة في طبيعة الضمانات التي قدمتها المؤسسة العسكرية لبناء ديمقراطية تعددية شفافة ونزيهة باشراك كل القوى السياسية وتشكيلات المجتمع المدني والتشاور مع مختلف الفاعلين المحليين والشركاء الدوليين والمنظمات الاقليمية والدولية التي تنتمي اليها موريتانيا.

ولذا ندرك طبيعة العبء الكبير المنوط بالطبقة السياسية الموريتانية، التي تعيش هذه الايام استفاقة حقيقية، في سياق غير مسبوق بدأ فيه الحقل السياسي يعيد تشكيل نفسه وفق الحقائق والمعطيات الجديدة، وبدأت الموضوعات الجوهرية التي كانت من محظورات الامس تطرق بجراءة لافتة.

ولئن كانت الانتخابات الرئاسية التي هي الرهان الاكبر في المسار الذي انطلق ستكون ناقشت المسلسل الانتقالي، إلا ان العديد من الأسماء المرشحة والمترشحة بدأت تتكرر على نطاق واسع في صالونات نواكشوط (التي لا تختلف كثيرا عن ديوانيات الكويت المشهورة)، مما ينبئ عن انطلاق حملة انتخابية طويلة، تتميز هذه المرة بأن نتيجتها غير محسومة سلفا، بل هي مفتوحة على احتمالات كثيرة ومتباينة.

ولذا يمكن القول دون تردد ان الديناميكية السياسية التي انطلقت في موريتانيا بعد تغيير 3 اغسطس (آب) ستكون نقطة تحول حاسمة في المسار السياسي الموريتاني من حيث بعدين محوريين، يتعلق اولهما بطبيعة الحقل السياسي وتركيبة مكوناته وقواه الفاعلة، ويتعلق ثانيهما بنمط ادارة الرهانات الوطنية الكبرى في مجتمع يطبعه التنوع والتعددية.