.. لهذا غدت إيران الرقم الصعب في المعادلة العراقية..!

TT

التحذيرات التي أطلقها وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل، قبل نحو أسبوع، بخصوص التدخل الإيراني السافر في الشأن العراقي الداخلي، وتواطؤ الاميركيين مع هذا التدخل، جاءت بعد ان طفح الكيل وبعدما أصبح من غير الممكن السكوت على هذا التدخل الذي غدا مؤكداً أنه إذا استمر بهذه الوتيرة فإنه سيدفع الأمور حتماً نحو حرب خليجية رابعة ستكون أشد وطأة وتدميراً من الحروب الثلاث السابقة المدمرة.

هناك تدخل إيراني في شؤون العراق الداخلية، مثبت وواضح ومؤكد، لا تستطيع حتى إيران إنكاره ولا تستطيع التنظيمات المرتبطة بطهران، إن مذهبياً أو سياسياً وبالتالي عسكرياً وأمنياً، نفيه فالمسائل بالنسبة لهذا الأمر واضحة وضوح الشمس والأمــر لا يحتاج الى بحث وتقصٍ وحشد أدلةٍ وشواهد والمثل البدوي يقول: «إنَّ من يرى الذئب بعينه لا يحتاج الى تتبع أثره لإثبات وجوده»!!

وبهذا فإن أخطر ما في التصريحات التي أطلقها الأمير سعود الفيصل قبل أيام هو اتهامه الولايات المتحدة، اتهاما مباشراً وواضحاً، بأنها سلَّمت العراق تسليم اليد الى إيران وأن الأخطر من هذا الاتهام، بحد ذاته، هو ان وزير الخارجية السعودي أطلقه خلال وجوده في أميركا نفسها وهذا يعني ان المقصود الحقيقي بهذا التصريح هو الإدارة الأميركية وليس طهران ورجال الدين الملتحين والمعممين الذين يحكمون الجمهورية الإسلامية.

فلماذا يا ترى تتعامل الولايات المتحدة مع إيران بهذه الطريقة حيث تحمل ضدها السيف بيد وتحاول خنقها من خلال قضية إنتاج الاسلحة النووية المتفاقمة في حين تحمل لها الورود العطرة باليد الاخــرى وتقدم لها العراق وما فيه على طبق من ذهب..؟!

إن المسألة هنا متداخلة وفي غاية التعقيد، فالولايات المتحدة التي ارتكبت أخطاءً وحماقات لا حصر ولا عد لها في العراق وجـدت نفسها، بعد شهور من احتلال هذا البلد، في وضع لا تحسد عليه فحاجتها المـُلحَّة الى التنظيمات الشيعية الأكثـر ارتباطا بإيران لمواجهة التمرد الذي تعتبره سنياً، وهو في حقيقة الأمر غير ذلك، جعلها تغضَّ الطرف عن النفوذ الذي تنامى تدريجياً في بغداد وفي كل الاراضي العراقية، حتى بات بهذا الحجم وعلى هذا النحو، وحتى غدت مقاومته والتخلص منه مسألة في غاية الصعوبة، وتحتاج الى معادلة جديدة في الإقليم كله.

كان الجنرالات والخبراء ورجال المخابرات الأميركيون في بداية لعبة الموت التي انخرطوا بها في بلاد الرافدين، يعتقدون ان رحلتهم في هذه البلاد ستكون بسهولة رحلة استكشافية من تلك الرحلات الشهيرة التي قام بها «المستشرقون» في القرنين السابع عشر والثأمن عشر في هذه المنطقة وكانوا يظنون ان بإمكانهم استخدام الشيعة وبخاصة التنظيمات، الأكثر ارتباطا بأكثر الأجهزة والدوائر الإيرانية «الراديكالية» المتشددة، الى ان يتمكنوا من السيطرة على «المثلث السني» ومن ترويض الشيعة العرب المناوئين فينقلبوا بعدها على هذه التنظيمات ويدخلوها بيت طاعتهم المباشرة ويقطعوا أي صلة لها بالمرجعية الإيرانية. لكن حسابات البيدر لم تأت على مقدار حسابات الحقل، كما يقال، فقد تسببت الاخطاء المدمرة التي وقعت فيها أميركا مباشرة بعد احتلال العراق والتي بقيت تقع فيها خلال العامين الماضيين الى اتساع رقعة التمرد والى تطوُّر أشكاله وأساليبه، والمؤكد هنا ان إيران من خلال استخباراتها وحرس ثورتها، ومن خلال الجيوب التنظيمية الأكثر ارتباطا بها قد أدارت اللعبة فوق رقعة الشطرنج العراقية بكفاءة عالية فأصبحت المعادلة عبارة عن حلقات متداخلة، وأصبح الأميركيون أسرى للإيرانيين من خلال حاجتهم الملحة للتنظيمات والمنظمات الملتزمة بالمرجعية المذهبية في «قُمْ» وبالمرجعية السياسية في طهران، لمواجهة ما يعتقدون أنه تمرد سني تسانده بعض الدول العربية المحاددة .

وهكذا.. ولأن إيران، التي أثارتها التهديدات الغبية التي أطلقها بعض المسؤولين الأميركيين وهددوا فيها بأن أهدافهم في هذه المنطقة لن تكتف بالعراق، وضعت خطة، نفذتها بكفاءة عالية في ظل الغياب العربي والتخبطات الأميركية، عنوانها استيعاب الولايات المتحدة في المأزق العراقي، وإغراقها في الأوحال العراقية كما غرقت في الأوحال الفيتنامية في عقدي ستينات وسبعينات القرن الماضي فقد استطاعت، أي إيران، الإمساك بأميركا من ذراعها المكسورة التي تؤلمها.

إن المشهد في العراق، الذي لا يمكن ألا يراه إلا أعمى البصر والبصيرة، هو ان إيران تمسك بعنق الولايات المتحدة بقوة وأن الولايات المتحدة التي غدت تستسلم لهذا الواقع فوق الاراضي العراقية تحاول الإمساك بالعنق الإيراني فوق خشبة المسرح الدولي من خلال تعميق مأزق طهران بالنسبة لإنتاج الأسلحة النووية وبهذا فإن الذي يدفع الثمن الغالي هو الشعب العراقي وكذلك الدول العربية المحاددة للعراق التي تعيش كابوساً مزعجاً، من أن تصحى في فجر ذات يوم وقد أصبحت على حدودها دولة عراقية انفصالية مرتبطة بجمهورية إيران الإسلامية دينياً وسياسياً واقتصاديا وأمنياً وعسكرياً وبالنسبة لكل شيء. كان لا يجب ان يأخذ العرب ذلك الموقف الاستنكافي الذي اتخذوه إزاء الأزمة العراقية فتعقدت المعادلة وأصبحت الولايات المتحدة غير قادرة على الدخول في مواجهة مع النفوذ الإيراني المتنامي في العراق لأنها غير قادرة على الاستغناء عن التنظيمات والفصائل الشيعية الأكثر ارتباطا بإيران ولعل الخطأ الفادح الذي لا يغتفر الذي وقفته بعض الدول العربية هو السكوت على العنف الذي اتخذ الطابع السني، وفي بعض الأحيان دعمه وتشجيعه، وبهذا فإنها ساهمت من حيث تعلم أو لا تعلم في تسليم الرقبة العراقية للقبضة الإيرانية.

عندما يدير العرب ظهورهم للتنظيمات والفصائل الشيعية ويواصلون الإشارة إليها بأصابع الاتهام، فإنهم يدفعونها دفعاً نحو إيران، والمؤكد ان هؤلاء الشيعة عندما يواجَهون بما يُواجَهون به أمام الابواب العربية الموصدة، فإنهم حتماً سيتجهون نحو الباب الإيراني، وبخاصة عندما يلمسون ان بعض العرب يعاملونهم ويتعاملون معهم على أساسٍ مذهبي وطائفي، وليس على أساس عروبي وقومي.

.. والآن وقد أصبحت الأمور على ما هي عليه، وغدا الرقم الإيراني هو الرقم الرئيسي الأوحد في المعادلة الداخلية العراقية، فإنه لم يعد هناك من حل سوى بلورة تيار وطني عراقي ديموقراطي، يتآخى في إطاره السنة العرب والشيعة العرب والأكراد، ويحتضن باقي الاقليات القومية والدينية.. إن مثل هذا التيار الذي لابد من بلورته بسرعة، هو خشبة الخلاص، وبغيره فإن الحرب الأهلية المذهبية والقومية ستبقى أول الخيارات المرعبة، وسيبقى التوغل الإيراني مستمراً ومتصاعداً، وهنا فإن الطامة الكبرى ستكون مؤكدة إذا بادر الأميركيون الى الرحيل المفاجئ، بينما الأوضاع المأساوية العراقية على ما هي عليه.