الجزائر: لا أبدا لا.. للإرهاب والفتنة

TT

هذا ليس بشعار بل لب ومغزى ميثاق المصالحة الوطنية في الجزائر، حيث دُعي الناخب للتصويت في استفتاء اليوم (29 سبتمبر) على مسعى جديد لإعادة الإرهابيين والضالين إلى حظيرة المجتمع المدني. جديدُ الميثاق المقترح للاستفتاء الشعبي يكمن في توحيد مسؤوليات مؤسسات البلاد، على اختلافها، في مكافحة آفة الإرهاب وذلك في مؤسسة واحدة مسؤولة أمام العام والخاص هي الدولة نفسها، إذ لم تعد هناك مؤسسة معينة سواء كانت عسكرية أو أمنية ـ مخابراتية أو الدرك الوطني معنية وحدها بالحرب الضروس على الإرهاب، بل هي الدولة. مسألة كان من الضروري الفصل فيها، لأن الحرب على الإرهاب كانت ولا تزال من واشنطن إلى العراق حرب قدرة خاصة لما تدور رحاها في دولة مهزوزة كانت تعاني أجهزتها من غياب الاستراتيجية الموحدة والمنظمة، كما هو شأن الجزائر عندها.

إنجاز كبير واستراتيجي آخر في ميثاق المصالحة الوطنية هو سعيه لتفكيك بؤر التوتر المستقبلية لدى اعترافه بعائلات وأبناء الإرهابيين كضحايا للمأساة الوطنية. فعلا، هذه العائلات الفقيرة في غالبها هي أيضا تُعد ضحية والدولة مطالبة بالتكفل بها وتسهيل انخراطها في العملية السلمية لتجاوز آلامها وأحيانا الأحقاد الكأمنة، وذلك على قدم المساواة مع عائلات ضحايا الإرهاب لتجنب التفرقة والفتنة مجددا.

أقول هذا من باب قناعتي بمسؤولية الحكومات المتعاقبة في ما آل إليه البعض من عنف ورفع للسلاح ضد إخوانهم. مسؤولية لا يعترف بها ميثاق المصالحة الوطنية ولم يرتق لتقييد وتدوين ملامتها في نصٍه كي تصبح عبرة للحكومات المقبلة. لكن الميثاق اكتفى، على غير حق، بتحميل مسؤولية الأزمة كاملة إلى «الحزب الإسلامي المنحل (الجبهة الإسلامية للإنقاذ)». أمر صحيح، لكنه لا يعبر على كل الواقع أخذا بعين الاعتبار أن ايديولوجية النظام السياسي في مراحله المختلفة من خلال مثلا التعليم وقانون الأسرة هيأت الطريق إلى هيمنة الأصولية في المجتمع مفرزة كارثة العنف السياسي. ضف إلى ذلك، مسؤولية الدولة، خصوصا خلال الحقبة الشاذلية، في عمليات النهب والتبذير التي لحقت بأموال الخزينة وتخاذل أجهزتها الأمنية في كشف التنظيمات المسلحة التي كانت تُجند الشبان وتحفر الخنادق في الجبال استعدادا لشن «جهادها» والعبث بمستقبل شعب كامل.

لذا يسجل، أيضا، الميثاق منع أي مسؤول سابق في «الجبهة الاسلامية للانقاذ» المنحلة من ممارسة السياسة أو عودة الحزب عموما للنشاط مجددا تحت أي عنوان. لست أدري أي وجه لهؤلاء لمعارضة هذا القرار، اذ المصالحة لا تعني نسيان ظلامية مشاربهم وسذاجة استخداماتهم المحلية والدولية التي دمرت وهجرت وحرقت وروعت الجزائريين.

وفي ضوء السلطات المخولة لرئيس الجمهورية في نص الميثاق يُمكن الاستخلاص، عموما، أن ميثاق المصالحة الوطنية، بخطابه الكأمن، هو اعتراف بحد ذاته من الدولة بأخطائها في حق المدنيين.

هكذا، رغم حيوية الحدث أحتفظ بقناعة أن ما حمله الميثاق المقدم للاستفتاء الشعبي كان بامكان المؤسسات المنتخبة وغير المنتخبة في الجزائر كالعدالة والبرلمان والأمن، الفصل فيه من دون تكليف خزينة الدولة مصاريف الحملة الطائلة، علما أن الجزائريين سبق لهم أن قالوا كلمتهم حول مسألة المصالحة، لما رحبوا بقانون الرحمة منتصف التسعينات، ولما صوتوا لصالح سياسة الوئام المدني عام 2000، إلى جانب انتخابهم، مرتين، الرئيس بوتفليقة ببرنامجه الرئاسي حول المصالحة. إذن، لست أدري ما الحاجة لمحاولة حصر المصالحة بين موافق ومعارض في استفتاء كون هذه المسألة بالذات الموافق والمعارض عليها.. على حق.

الأيام التي قضيتها في الجزائر متتبعة حملة الاستفتاء للتصويت بنعم على ميثاق المصالحة جعلتني أتفهم الأصوات المعارضة كما أتفهم تلك المرحبة. هناك من المعارضين من يهتمون أكثر بحقوق الإنسان وضرورة إلقاء الضوء على أحداث الحقبة الدامية في شفافية تامة. وهم على حق، أي على حد قول أحدهم «المُصارحة قبل المصالحة». فمن لا يُحب السلم؟ لكن الخوف هو من المجهول والتصويت لصالح سلم وصفحٍ قد يتضح يوما زائفا اذا عاد «التائب» الى ما كان عليه.

في ظني كان على الدولة أن تمارس واجبها بعد ان استعادت قوتها مفرقة بين ما هو استراتيجي وحيوي لأمن شعبها ومستقبله والفصل فيه باستقلالية، خصوصا بعد أن أصبحت ثمار سياسة الوئام ملموسة في الميدان. كما لا أرى، سواء كانت نتيجة الاستفتاء نعم أو لا، أن تبقى الدولة صامتة على زهق الأرواح وضياع فرص التنمية لمجرد استمرارها رهينة قرارات رئاسية تجعل الرؤساء يعلنون الحرب والسلم متى وكما يشاؤون.

الرجل الأول في الدولة من حقه أن يسعى، على حد قوله، «لحل مشكلة هذا وذاك حتى لو كان ذلك إرهابيا»، غير أن محك وتحدي المصالحة الوطنية الحقيقية يكمنان في مدى نجاح المشاريع الاقتصادية في امتصاص البطالة والرفع من مستوى دخل الفرد. مما لا شك فيه أن الأمن ضروري لكنه ليس كل شيء كي يتحول إلى شماعة يعلق عليها كوادر الدولة تقاعسهم في تأدية واجبهم وفك الخناق الاقتصادي والاجتماعي عن الناس. وأكثر من ذلك، تبرز الضرورة لكسر الايديولوجية الأصولية التي تعرف منذ عقود الثقافة السياسية في الجزائر.

وفي ذات السياق، أتساءل لم نكثر من الاستحقاقات ودعوة الناخبين في كل مرة إلى صناديق الاقتراع؟ فرغم سلامة هذا التوجه الديمقراطي النادر في دول عربية أخرى الا أنه يقود الناخبة والناخب للإحساس بالملل والنفور من العملية الانتخابية مهما كان موضوعها، لا سيما أن تفاعل المواطن والدولة في العملية الانتخابية لا يتجاوز دائرة الانشغالات السياسية. لم لا يستفتي رؤساء الدوائر والبلديات السكان في شؤون أحيائهم وحول مستقبل المساحات الخضراء التي تكاد تنقرض من مدنهم؟ وألم يحن الوقت لإنعاش الديمقراطية على المستوى الجماعي المحلي وليس الجماعي الوطني فقط؟

فعلا، لا أرى من ضرورة حيوية في تنظيم مثل هذا الاستفتاء، لأنني لا أريد أن أتصور لحظة فقط أن يفوز سيناريو المصوتين بلا. ماذا سنفعل عندها؟ وهل ستفتح علينا باب جهنم، مرة أخرى، بعد أن عاد بيننا المغادرون لمغاراتهم؟

فوز الورقة الزرقاء (نعم) في الاستفتاء قد يعزز غدا العامل السلمي في المجتمع لكنه لن يطرح تلك «الجزائر الجديدة» التي تعدنا بها شعارات الحملة. يا ليت يحدث ذلك. مشروعُ الجزائر الجديدة طال انتظاره وزادت سنوات الإرهاب في تأخير إنجازه، إذ زحفت الأمية وتعمق التخلف في القرى والمدن. تخلف مُستهدف أم بريء لست أدري فميثاق المصالحة الوطنية لا يردُ على مثل هذه التساؤلات إلا عبر ما يصفه ويلخصه في مفردة واسعة: «الفتنة».

وحتى لا نستمر في التستر على عيوبنا عوض مواجهتها، التخلُف والأمية هما واقع جزائر 2005 وصباح غد جزائر الورقة الزرقاء مهما تفاءلنا بها. لذا أفرح، وأحمد الله، أن يكون أهل التهليل والتصفيق قد هللوا وصفقوا، هذه المرة، لميثاق ينشد المصالحة الوطنية لا غيرها، الا أنني ما زلت أخشى على مستقبل الجزائر أن يبقى رهن نتائج اقتراع «الكم»

(كما سبق وحدث!)، إن استمرت الأمية سمته وحليفه. كم أنت خطير أيها الصندوق!