أوراق أميركية: في مهمة هيوز .. وصورة أميركا المهزوزة

TT

جاءت كارين هيوز مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الدبلوماسية العامة (أي الدعاية)، والمقربة جداً من الرئيس بوش، حيث شاركت في مهمة تلميع صورته أثناء حملتيه الانتخابيتين، جاءت إلى المنطقة في مهمة وصفت بأنها تستهدف استكشاف أسباب تدهور صورة الولايات المتحدة في المنطقة العربية وتزايد موجات «الكراهية» تجاهها وأسلوب معالجة هذا الواقع. وإذا كانت السيدة هيوز تشكر على هذا الجهد والاهتمام الذي يؤكد على الأقل شعورها وشعور من أوفدها بأن هناك «مشكلة»، فإني لا أستطيع أن أمنع نفسي ـ في مزيج من الجدية والمزاح ـ من أن أقول لها إنه كان الأولى بها ـ وبمن أوفدها ـ أن تنظر إلى عتبة البيت قبل أن تمد جهودها إلى الخارج، وأن تحاول أن تعالج ما أسفرت عنه استطلاعات رأي أجرتها أخيرا محطة CNN وجاءت نتيجتها كما يلي، (وإذا كان جمع الأرقام يفوق %100، فلأني أورد نتائج أسئلة متعددة طرحت على من تمّ استفتاؤهم:

32 % يؤيدون طريقة إدارة الرئيس بوش لحرب العراق.

%63 يؤيدون انسحاباً كاملاً أو جزئياً للقوات الأميركية.

%55 يرون ضرورة الإسراع بالانسحاب.

%34 يرون أن الحرب لا يمكن الانتصار فيها UN WIN ABLE.

%21 يعتقدون أن الولايات المتحدة سوف تكسب الحرب قطعياً.

%22 يرون احتمالاً لأن تنتصر واشنطن في حربها).

ولو تدبرت السيدة هيوز ـ وتشاورت في الأمر مع رئيستها الدكتورة رايس ـ ولعلها كانت تقتنع بأن جهدها الأساسي المطلوب ليس عبر البحار، بل في وطنها حيث تراكم الفشل فوق الفشل. وقد قرأت أخيرا مقالاً ليوسف إبراهيم المحرر الكبير في النيو يورك تايمز سابقاً وهو من أصل مصري نشره في جريدة الاتحاد الإماراتية لخص فيه رؤيته لوضع الرئيس بوش، بأنه أصبح أسوأ رئيس أميركي في التاريخ، وأنه فقد %30 من شعبيته، وأشار إلى سوء حالة الاقتصاد، والأوضاع الاجتماعية لكثير من المواطنين الذين لا يحظون بتأمين صحي، وإلى السياسة الخارجية التي أدت إلى كارثة العراق التي تذكر الكثيرين بمأساة فيتنام، وقد سقط 2000 قتيل أميركي، وهناك 22 ألفاً بين جريح وعاجز، وسقط مائة ألف عراقي من المدنيين بينما لم يقتل من «المتمردين» إلا عشرون ألفاً. وأضاف أن الولايات المتحدة أصبحت في مأزق لا تستطيع الانسحاب ولا تقوى على البقاء، وفقدت هيبتها بينما الجيش قد أهين.

ولكن ما دامت السيدة هيوز قد اختارت أو اختير لها أن تأتي إلينا، وهي تعرف أن بلادها لا تحظى في المنطقة بأية شعبية، حتى لدى أصدقائها أو الحريصين على عدم معاداتها، فإن من واجبنا أن نوضح لها رؤيتنا للأوضاع في العراق، وفي فلسطين، وموقفنا من موضوع نزع السلاح النووي كنماذج لمواقف تستطيع الولايات المتحدة لو غيرت سياساتها بشأنها، لتكون أكثر توازناً وعدلاً وحكمة، أن تغير من النظرة السلبية إليها.

أولا: العراق

ليس هناك بالقطع من يترحم على صدام حسين الذي ألحق بالأمة العربية أذى يكاد ألا يكون أحد قد سبقه إليه، وليس هناك من لا يدين قتل المدنيين الأبرياء أياً كان من قتلهم. ولكن ليس هناك من يرضى بما وصلت إليه الأحوال نتيجة للاحتلال الذي جعل من العراق نقطة جذب لمنظمات إرهابية لم تكن موجودة، ومركز تهديد لاستقرار المنطقة كلها، وبدلا من الديمقراطية المثالية التي تغنوا بها نرى بلداً تسوده الفوضى والعنف، نهبت أمواله سواء من جانب الإدارة العسكرية الأجنبية أو أصدقائها الذين ولتهم الحكم، ودمرت بنيته الأساسية فأصبح يعاني ـ وهو البلد الغني ـ من مشاكل الكهرباء والمياه والصرف الصحي والنقل والأمن والعمل وكل مظاهر الحياة اليومية العادية، وأصبح دولة بلا جيش أو بوليس حقيقيين بعد أن سرح المستر بريمر النظاميين ولم يستطع ـ وما كان ليستطيع ـ ملء الفراغ الناجم عن ذلك. وأصبحت البلاد مرتعاً للطائفية البغيضة التي تقود إلى حرب أهلية وتقسيم بما له من تداعيات كارثية على العراق وعلى جيرانه وعلى الأوضاع الإقليمية عامة. وقد سمعنا في هذا الشأن التحذير السديد من جانبالأمير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية الحكيم.

ولا ننسى كيف أدت هذه السياسة الخرقاء التي استندت إلى دعاوى ثبت كذبها، بل ثبت أنهم كانوا يعرفون كذبها عندما أجبروا الرجل الشريف كولين باول على أن يذهب إلى مجلس الأمن بقصص وهمية عن أسلحة الدمار الشامل المتنقلة في حافلات عرضوا صورها. وقد أبدى كولين باول أخيرا أسفه على هذا اليوم الذي يخجل منه كلما تذكره والذي سيظل بقعة سوداء في تاريخه.

كما لا تغيب عن البال أحداث تعذيب الأسرى العراقيين في السجون الأميركية، وعندما تكشفت الفضيحة بالنسبة لسجن أبو غريب قالت السلطات الأميركية إن ذلك من فعل فئة ضالة تصرفت دون تعليمات، ثم تكشف بعد ذلك أن التعذيب جرى في أكثر من سجن، واستمر بعد فضيحة أبو غريب، وأنه كان يتم بأسلوب متكرر يشكل قرينة على أنه كانت هناك تعليمات أو على الأقل إيحاءات بتليين الأسرى بمختلف الطرق خاصة بعد الفتاوى الرسمية بعدم انطباق اتفاقيات جنيف على أسرى جوانتانامو وغيرهم.

وفي الأيام الأخيرة جاء حادث الجنديين البريطانيين اللذين تخفيا في زي عربي لأسباب لم تكشف عنها القيادة البريطانية لتثير شكوكاً كثيرة حول الدور التحريضي أو على الأقل المريب، الذي تضطلع به قوات الاحتلال مما دعا البعض إلى فتح ملفات قديمة، وإعادة النظر في تفسيرات وملابسات بعض الأحداث الماضية.

ولا أريد أن أختم ملف العراق قبل أن أشير إلى التقرير الأخير الذي أذاعته اللجنة الدولية للأزمات التي يرأسها وزير خارجية استراليا الأسبق والذي ورد فيه:

« إن عملية دستورية متسرعة قد عمقت الانقسامات، ولا يستطيع وقف تمزق العراق العنيف إلا مبادرة أميركية قوية لتهدئة السنة.

« إن إجراء استفتاء على دستور ضعيف لا يتمتع بتوافق ويتميز بأنه غامض إلى درجة كبيرة بالنسبة لمسائل أساسية، واحتمال إقرار هذا الدستور بالرغم من معارضة السنة خاصة مع قدرة الشيعة والأكراد على التعبئة، سوف يقسم العراق على أسس عرقية وطائفية ويخلق أوضاعاً يستغلها المتمردون ويؤدي إلى طرد أو ترحيل الكثيرين مناطق يقيمون فيها.

« إن الأمل الوحيد هو محاولة إيجاد حل وسط حقيقي يعالج ما يقلق السنة دون أن يتجاوز الخطوط الحمراء الكردية والشيعية. ومن هنا يجب الإسراع بإجراء مفاوضات للوصول إلى اتفاق قبل 15 أكتوبر يؤكد أن الدستور سوف يتم تعديله فيما بعد أو تصدر قوانين مناسبة لتأكيد أمرين: أولهما أنه لن يتم دمج أكثر من 4 مقاطعات في منطقة واحدة، وذلك لمواجهة الخشية من إقامة منطقة شيعية كبرى في الجنوب، والثاني أنه لن يستبعد عراقيا من العمل العام لمجرد أنه كان عضواً في حزب البعث. أما إذا تم إقرار الدستور بشكله الحالي وشكلت حكومة لا تستند إلى توافق سياسي قوي يتمتع بالشرعية فسوف تقوم حرب أهلية، وأضاف التقرير أن الولايات المتحدة هي التي تستطيع ذلك، وقد لا تنجح ولكنها لا تملك ألا أن تحاول. ومن جهة أخرى فقد نقل المعلق الشهير «آرنو دي بورجراف» عن رئيس شرطة البصرة أن ثلاثة أرباع رجاله ينتمون في الواقع إلى مليشيات بدر وجيش المهدي و«حزب الله في العراق»، كما نقل عن مستشار الأمن القومي العراقي أن خمسين ألفاً من شرطة ومخابرات صدام قد اختفوا بعد الاحتلال، وأنهم انضموا غالباً إلى قوات السنة، وأضاف الكاتب أن مسؤولاً عربياً كبيراً ذكر أن من يسمون «متمردين» هم في الواقع جيش العراق الذي سرحه الأميركيون فور الاحتلال رغم نصائح العارفين.

ثانياً: فلسطين:

يطول الحديث عن فلسطين ولكنني لن أطيل. فما يحدث كل يوم يؤكد الشكوك التي سبق أن عبرنا عنها في نوايا شارون الذي يريد أمرين: أولهما التحرك فردياً ومن جانب واحد حتى لا يكون ملتزماً إلا بما يريده، وأن الانسحاب من غزة يستهدف إبقاءها أسيرة، والاستمرار في عدوانه جريمة تحت ستار ما أوجده تحركه الظاهري من روح إيجابية تجاهه، وتأكيد قبضته على الضفة بما فيها القدس، بالإضافة إلى تعضيد موقفه في المناورات الداخلية. وهذه أمور تتضح للجميع كل يوم كما تفضح مخططات شارون للوقيعة بين الفلسطينيين ودفعهم إلى حرب أهلية، وكذلك محاولة توريط أطراف أخرى في تلك الحرب. كل هذا بينما الولايات المتحدة لا تكف عن مساندته وكيل المديح له سواء عن جهل وسذاجة ـ أستبعدهما ـ أو عن رضاء ومباركة لمن تسميه «رجل السلام شارون».

ثالثاً: المسألة النووية

وهنا يتضح ازدواج المعايير في التعامل مع كوريا وإيران وإسرائيل، وهو ما لا يحتاج إلى دليل أو تأكيد.

لعل السيدة هيوز تتدبر تلك الأمور وتستخلص منها النتائج الصحيحة، فتعود إلى واشنطن لتقول إنها وجدت في المنطقة شعوباً لا تعادي الولايات المتحدة بل تريد مصادقتها، وأن العقبة هي سياسات أميركية تتناقض مع الحق والعدل، بل تتنافى مع المبادئ التي تنادي بها الولايات المتحدة والتي فقدت مصداقيتها داخلياً وخارجياً، حيث يتفق الشعب الأميركي وشعوب المنطقة على الرغبة في إنهاء الأوضاع الحالية والسير معاً نحو بناء مستقبل أفضل للجميع، والوقوف في وجه التيارات المخربة ومنها الكثير المتمركز في دهاليز الحكم في واشنطن.