التحديث قيمٌ ثقافية بالدرجة الأولى

TT

تظل مسألة «التحديث» والاتجاه نحو المزيد من الإصلاحات الهم الذي يشغل قطاعات واسعة من النخب الثقافية والسياسية في العالم العربي والإسلامي، بسبب ما آلت إليه الأوضاع في المنطقة، إضافة إلى ردة الفعل الطبيعية تجاه الضغوطات التي تمارسها بعض الدول الغربية للدفع نحو المزيد من الحريات والحقوق، وهو الأمر الذي تتفق الدول على ضرورة أن يكون وليد حراك مجتمعي داخلي، وبمراعاة خصوصية كل دولة وما يلائمها، لكن اللافت أن حصر الجدل بين هذه الثنائية يعني تسييس موضوعة «الإصلاح» أو «التحديث»، وهو الخطأ الذي تحاول جماعات المعارضة جر الأنظمة السياسية إلى مربعه، ذلك أنه لا يمكن عزل مجمل مطالب «التحديث»عن سياقاتها المفاهيمية ذات البعد الثقافي، الذي يجب أن يتجذر أولاً في وعي المجتمع عبر صيغ متباينة، وبحسب شرائح المتلقين، وهذا لا يتأتى إلا بإشاعة ثقافة التسامح، الثقافة المدنية القائمة على التعددية، وقبول الرأي الآخر، واحترام الذات الإنسانية، والمشاركة الجماعية في الارتقاء بالمستوى العام، وتحسين مستوى العلاقات بين الأفراد.

هذه الثقافة تكاد تكون غائبة، في حين يتمحور الحديث حول المطالبة بحلول لمشاكل قائمة، أو توسيع نطاق صلاحيات جديدة، هذا كله يتم من دون إعادة النظر في العوامل الثقافية والمقولات الفكرية التي يمكن أن تساهم في خلق «وعي تنموي» لدى أفراد المجتمع، لا سيما القادرين على التأثير والنفوذ الاجتماعي والاقتصادي. فهؤلاء يمكن أن يفعلوا الكثير متى ما وجدت البرامج الجادة والاستراتيجيات بعيدة المدى، والتي يجب أن تتكفل بها مراكز أبحاث أهلية متخصصة في دراسات الجدوى من أجل الخروج من مأزق الأزمات التنموية لاستراتيجيات المستقبل لدول العالم الثالث، التي بدأت تتسع فجواتها التنموية مع مرور الزمن، مقارنة بالدول المتقدمة، وهذا أيضاً يقودنا إلى واجب المؤسسات المستقلة في الدول الغربية التي بدأ العديد منها يضع على أجندته أولوية إيجاد الحلول لإشاعة الوعي المدني للحد من اتساع هذه الهوة السحيقة، والتي ستكون أدنى سلبياتها في فقدان التواصل مع العالم، لرداءة البنى التحتية وعدم كفاءة المؤسسات التفاعلية للتواصل مع نظيراتها الأخرى.

إذن نحن أمام مشكلة وعي بالتحديث في شقها الثقافي، وهذا يعني أننا بإزاء فقر لقيم بناء مستقبل تنموي يبدأ من الفرد الواعي بأزمة التخلف الاقتصادي، وضرورة تحسين مستوى الدخل والتعليم، وبناء القيم في مجتمعه الصغير الأسرة.

إن البدء في دراسات وأبحاث اجتماعية من هذا النوع هو الخطوة الأولى للتغيير الذي ينبع من الداخل، ويتماشى مع قيم المجتمعات العربية والإسلامية، وهذا دور المثقفين والمؤسسات الثقافية والتربوية بالدرجة الأولى، وهو أولى من الالتفاف على المشكلة والهروب إلى الأمام، من خلال الارتكاز على المشكلات السياسية والوقوف عندها وتضخيمها، حتى تغدو عائقاً نفسياً للإحساس بأي أمل في التغيير، مما يعني الهروب إلى ثقافة الخلاص ونهاية العالم ، وإذكاء مشاعر الإحباط والشعور بدنس الواقع، مما له انعكاساته النفسية الحادة على مستوى الفرد أو المجتمع .

[email protected]