في رمضان

TT

تولى القضاء في محكمة الاحداث في بغداد في الخمسينات الاستاذ محيي الدين. لا اتذكر اسمه الكامل. فقد كان قاضيا على الاحداث، والاحداث لا يتذكرون من الكبار غير اسمهم الاول، مثلما لا يتذكر الكبار من الاحداث غير مقالبهم ومصائبهم.

بحلول شهر رمضان، عزم الاستاذ محيي الدين على الصوم، ربما لأول مرة في حياته، لأنه عندما فتش عن المصحف الشريف لتلاوة شيء في المناسبة على عادة سائر الاتقياء، لم يجد اي نسخة منه في البيت. فبعث بالخادم ليأتيه به لا من سوق السراي، سوق الكتب المعروف في بغداد، وانما من المحكمة حيث توجد نسخة قديمة يستعملونها لاداء اليمين عند الشهادة. فجاءه الخادم بها وقام بما يلزم من التلاوة.

عاد في اليوم التالي الى المحكمة ليقوم بواجبه للمخلوق مثلما قام بواجبه للخالق. وشاءت الصدفة ان تتضمن جلسات المحكمة شهادة من والد أحد الاحداث المتهمين، واقتضى ذلك ان يؤدي الشهادة بعد القسم. فتشوا عن المصحف ليضع يده عليه ويقسم فلم يجدوه. راح كاتب الضبط يولول ويشتم، «الله اكبر، يعني بها لبلد يسرقون حتى كلام الله؟! ومن المحكمة؟ الله يلعن كل من اخذه». ولا شك انها كانت لعنة تسرع بها كاتب الضبط واضطر الى سحبها والاعتذار عنها بعد ان عرف ان القاضي هو الذي اخذ المصحف. بعثوا بالفراش لبيته ليستعيده. وأجّلوا المحاكمة الى بعد الظهر عندما يحضر. بيد ان الفراش كان رجلا أميا. ويظهر ان زوجة القاضي ايضا كانت امية. عاد الفراش من البيت حاملا القاموس العصري بدلا من القرآن الكريم ووضعه على طاولة القسم. فتقدم الشاهد ووضع يده عليه وقال: «بحق هذا كلام الله ما اقول غير الحقيقية».

لا ادري ما الذي كان سيقوله الفاضل الياس انطون الياس عن هذه الشهادة البليغة لقاموسه الشهير لو انه سمع بها. ولكن الشهادة جرت وتلتها شهادة اخرى، شهادات وشهادات على مر الايام والقاضي يحكم بموجبها دون ان يفطن احد لحقيقة هذا الكتاب المطروح على الطاولة للشهادة.

جاءت ايام وفاتت ايام وجرت المقادير ان يحضر للشهادة رجل يهودي. ومن عادة اليهود ان يدققوا في الكتب. نظر إلى الكتاب. وقال انا بقى اقسم على التوراة ولا اقسم على القاموس العصري: انجليزي عربي او عربي انجليزي. قال القاضي، «شنو؟ جاي تمزح مع المحكمة؟ تأدبا» مد الرجل يده ليعرض الكتاب على القاضي: «جر ايدك ولا تمس الكتاب. يهودي وتحط ايدك على القرآن؟» فجر يده. وخلال ذلك لاحظ كاتب الضبط الكلمات المطبوعة بالذهبي على الغلاف. قام من مكانه وهمس شيئا في اذن القاضي الذي تجهم وجهه عندها. قضى بقية اليوم يتأمل في كل الشهادات التي سجلها والاحكام التي اصدرها. تمتم مع نفسه اخيرا وقال: «يمكن كل هالوزراء والضباط اللي حلفوا بالاخلاص للوطن، ايضا حلفوا على القاموس العصري».

وهذا ما كان ولو لا ذلك الرجل اليهودي لبقيت المحاكم العراقية تقضي بين الناس حسب القاموس العصري.