الانتصار التركي

TT

واخيرا حققت تركيا الخطوة الاولى الحاسمة في مسار اندماجها للبيت الأوروبي بموافقة دول الاتحاد على فتح باب المفاوضات لانضمامها للاتحاد خلال اجتماع لوكسمبورغ يوم 3 اكتوبر.

ويسجل هذا المكسب لحكومة اوردوغان التي استطاعت خلال السنوات الثلاث التي قضتها في السلطة تحقيق عدة انجازات جوهرية، من بينها دفع عجلة الاقتصاد واخراج البلاد من الازمة الاجتماعية الخانقة، بحيث اصبحت تركيا اليوم مرشحة لأن تكون في مستوى نمو دول اوروبا المتوسطية الجنوبية، ونموذجا للقوة الاقليمية في المجال الاسلامي.

ولئن كان الحديث قد كثر في الثمانينات والتسعينات عن نموذج النمور الاسلامية الصاعدة، وابرزها اندنوسيا وماليزيا، فإن الازمة المالية الحادة التي عرفتها هذه البلدان، قد بينت هشاشة التجربة وارتهانها للسوق المالية الدولية المتذبذبة، فضلا عن كون البلدان المذكورة لم تتمكن من حسم المعادلة السياسية في اتجاه النظام الديمقراطي التعددي، بل حافظت على المسلك الأحادي ونهج الزعامة الأبوية، على الرغم من هوامش الانفتاح المتزايد على المجتمع المدني النشط والمرتبط بالخارج.

وشكلت التجربتان الباكستانية والتركية نموذجين للاحتذاء في المنطقة الاسلامية، باعتبار اهمية البلدين بشريا واستراتيجيا وتأثيرهما الحاسم على مجرى الاوضاع في الدائرة الاسلامية الواسعة من غرب افريقيا الى وسط آسيا.

اما التجربة الباكستانية التي بدأت معالمها الاساسية في عهد الرئيس الأسبق بوتو وخلفه الذي انقلب عليه ضياء الحق، فقد ركزت على التصنيع العسكري مدخلا للتحديث وشرطا للفاعلية الاستراتيجية في مواجهة خصمها التقليدي الهند. وقد اصبح هذا الهدف مدار اجماع واسع بين النخب السياسية والعلمية والعسكرية على اختلاف تجارب الحكم التي تأرجحت بين الحكم العسكري المباشر والتناوب الديمقراطي المقيد، وافضت التجربة الى نتيجة مزدوجة، مفادها النجاح في انتاج اول قنبلة نووية اسلامية والنكوص الى نمط من ديكتاتورية المؤسسة العسكرية بواجهة تحديثية تستوحي بحذر النموذج الاتاتوركي مع مراعاة الحساسية المحلية في دولة قامت مشروعيتها على مبدأ الانفصال الديني (دولة المسلمين في شبه القارة الهندية).

ومن المفارقات المثيرة ان باكستان نجحت في بناء قاعدة صناعية عسكرية قوية دون ان تنجح في مجهود التحديث التقني والاقتصادي، ودون ان تتبنى آليات التنظيم السياسي الديمقراطي.

وهكذا افضت معادلة السباق النووي بين الهند وباكستان التي تحكم المركب الصناعي ـ العسكري في دائرة القرار والسلطة، ومن ثم اقصاء الطبقة السياسية، وتعليق التجربة الديمقراطية المتعثرة التي عرفتها البلاد منذ سنوات استقلالها الاولى. ومن هنا يمكن القول ان باكستان اخفقت في تحقيق الخيار الهندي الجامع بين الصناعة العسكرية المتقدمة والديمقراطية التعددية المستقرة.

اما تركيا، فقد عانت منذ نشأتها المعاصرة من عقدتين عصيتين مترابطتين، هما من جهة اشكال هويتها الثقافية والحضارية، ومن جهة اخرى اشكال هويتها الاقليمية والاستراتيجية. فالمشروع التحديثي التركي الذي تبنته النخب العسكرية المتحكمة في مقاليد الامر قام على هدف دمج تركيا في النظام الاوروبي ثقافيا واستراتيجيا، بتكريس الخيار العلماني وحمايته دستوريا والانخراط في المنظومات الدفاعية والأمنية الغربية.

بيد ان التوجه الاوروبي لدى النخب التركية اصطدم دوما بعائقين كبيرين هما تباطؤ وتيرة الاصلاح السياسي والخشية من انضمام قوة اسلامية كبرى الى ناد اوروبي يظل «مسيحيا» مهما كانت التطمينات والتصريحات المعلنة.

وعلى الرغم من ان تركيا استطاعت في السنوات الاخيرة القيام باصلاحات سياسية جوهرية طالت نظام الحكم بفتح المجال امام مختلف الاطياف السياسية لولوج المعترك الانتخابي ومع الحد من تدخل الجيش المباشر في شأن السلطة، والاستجابة لعدد من مطالب الحركة القومية الكردية، إلا ان العائق الخارجي المتمثل في خشية وتردد الطرف الاوروبي ظل قائما، بل تفاقمت حدته بعد احداث 11 سبتمبر 2001، وحرب العراق الاخيرة، التي اتخذت فيها تركيا موقفا مستقلا.

بيد ان الدبلوماسية التركية النشطة تمكنت من التأثير الفاعل في القرار الاوروبي الذي وجد نفسه مرغما على التعامل الايجابي مع حقائق موضوعية، تتلخص في انسجام تركيا الكامل مع شروط ومقتضيات الاندماج المطلوبة في البلدان المرشحة للانضمام للمنظومة الاوروبية ولا بد من التنبيه هنا الى ان هذا التحول لم يكن ليحدث لولا نجاح حكومة اوردوغان في حل بعدي اشكالية الهوية التركية، سواء من حيث البعد الثقافي الحضاري بتقديمها نموذجا جامعا بين المرتكزات الاسلامية في ابعادها الرمزية والثقافة الحية ومقومات الحداثة الموضوعية، او من حيث البعد الاستراتيجي بعودتها القوية للرهان الاقليمي العربي ـ الاسلامي طرفا فاعلا ومحوريا مما هيأها لاداء دور جيوسياسي متزايد في منطقة تستأثر حاليا باهتمام القوى الدولية، ومن هنا تأتي اهمية توظيف هذا الدور بالنسبة لاوروبا.

وخلاصة الامر، ان الانتصار التركي الاخير يمثل نقطة تحول هامة في السياق الاقليمي، وقد يكون مؤشرا على امكانية قيام حوار جاد وناجع بين العالمين الاسلامي والغربي، عبر البوابة التركية.