عن الهموم الفلسطينية: فتح التنمية والاستقلال

TT

لا أحد من الفلسطينيين، يشعر بالسعادة، لتراجع مكانة ونفوذ حركة فتح، في الشارع الفلسطيني.

فهذه الحركة، التي أطلقت رصاصة الثورة المعاصرة الأولى، وقادت منظمة التحرير، على رأس ائتلاف يكاد يكون نموذجيا بين الفصائل وقطاع المستقلين العريض.. وصلت في الجسد الفلسطيني الى وضع فريد.. صدق فيه الوصف:

إن صلحت فتح.. صلحت الساحة

إن تراجعت فتح.. تراجعت الساحة.

ولا جدال في ان تراجع مكانة فتح، يعود الى عوامل وأسباب عديدة، بعضها يتصل بواقعها التنظيمي والإداري والمالي، والبعض الآخر، بطريقتها في إدارة السلطة، وهي طريقة، لا يختلف اثنان من فتح وأنصارها على أنها مشوبة بكثير من السلبيات إن لم نقل أكثر من ذلك.

وخلال السنوات العشر الماضية، التي يمكن تسميتها بـ«سنوات احتكار السلطة»، حدث ذلك الاندماج المطلق بين حركة فتح كحركة شعبية ذات ملامح حزبية وبين السلطة الوليدة، مما اخضع الشعب الفلسطيني الى قيادة الحزب الواحد، وهذا واحد من اشد أنماط نظم الحكم تخلفا في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الجديد. والآن.. وبعد كل ما حدث.. يدور داخل فتح، جدل صاخب وحاد.. حول كيفية استعادة المكانة، وتظهر في سياق هذا الجدل، آراء واجتهادات، بعضها يحصر الأمر في اتجاه تحسين الأوضاع التنظيمية والادارية والمالية، كسبيل لتحسين المكانة السياسية، وبعض آخر يوافق على هذه البديهية البسيطة، ويضيف عليها أمرا بالغ الأهمية.. ألا وهو ضرورة إعادة النظر في وسائل التعامل مع الجمهور الفلسطيني عبر السلطة ومؤسساتها وإمكاناتها. وهذه الأفكار، ذات الطابع العام، تبحث وبصعوبة عن الآليات الفعالة لوضعها موضع التطبيق.. ذلك بعد الاتفاق على أمرين كبيرين ما زالا (في الجدل والإجراءات) مجرد عناوين عامة.

الأمر الاول: عقد مؤتمر عام للحركة، يملك صلاحية وشرعية للتصور المنشود، سياسيا وتنظيميا.

والأمر الثاني: دخول انتخابات المجلس التشريعي من خلال برنامج سياسي تنموي مقنع للجمهور، ليس بقوة البيان وفصاحة اللسان وإنما بفعل ما ينبغي ان يلمسه الجمهور على الأرض، والجمهور متعطش لرؤية أداء أفضل في المجالات كافة، وعلى وجه الخصوص في مجال التنمية..

وهنا :

ما الذي يترتب على السلطة ان تفعله في الأشهر القليلة التي تشهد العد التنازلي المتسارع للانتخابات.. وكيف توضح حركة فتح، بصماتها الحقيقية على الأداء المعدل، والمقنع، والمنتج.

ودعونا قبل الخوض في التفاصيل، نسلم ببديهية منطقية، وهي جدلية العلاقة بين التنمية والاستقلال، فإذا كانت التنمية شرط حياة للأفراد والمجتمعات، فان الاستقلال هو الهدف.. وفي حالتنا الفلسطينية، لا يصح الفصل بين شقي المعادلة، بل ان جدارة أي تشكيل سياسي وطني، تتحدد بمدى قدرته على المواءمة بين شروط وآليات ومضمون التنمية مع متطلبات هدف الاستقلال.

لذا.. فإن فتح، ذات المكانة التاريخية المشهودة في الأمرين معا، التنمية والكفاح من اجل الاستقلال، ينبغي ان توسع دائرة الاهتمام والفعل، وان تتوغل اكثر في شأن التنمية وتوفير احتياجات الجمهور، وضمان مصالحهم، من دون ان تجعل هذا التوجه المفترض يكون تفصيليا بجوهر الرسالة الوطنية التي هي الحرية والاستقلال، ودعونا والحالة هذه، ان نناقش ببعض التفصيل الاحتياجات التي يتعين تلبيتها وعلى نحو فوري ومن دون إبطاء، مستبعدين بالطبع الارتجال التقليدي في طرح المبادرات، وسطحية الدعاية الانتخابية في التعاطي مع مصالح الملايين، بمعنى أن الأمر هنا يجب ألا يتعلق بأكياس طحين توزع هنا وهناك، أو بمنح مجتزأة يرى البعض أنها توفر شيئا من عمق شعبي!

أولا: التعليم:

في كل بلاد الدنيا يتطور العلم، وتتحسن أوضاع مؤسساته بدءا من مقاعد الدراسة والمدرسة، وليس انتهاء بالمناهج والأنشطة، إلا في بلادنا.. حيث التراجع المأساوي في هذا المجال، وإذا كنت لا أجحف بحق وزارة التربية عندنا، ومحاولاتها الدؤوبة لوقف التراجع، وتوفير إمكانات التطوير.. إلا أن الأمر هنا، لا يتعلق بالإدارة والتنظيم بقدر ما يتعلق بالإمكانات المالية، التي يتعين توفيرها، لبناء المزيد من المدارس وتجهيزها بأحدث الوسائل للتعليم وباقي الأنشطة، ولتبسيط الأمر، تفادي أن يتعلم أولادنا في غرف غير صحية، وفي حالات اكتظاظ مرعبة، وتقسيم الفصل الواحد الى عدة فصول وفق نظام «الشفتات».

إننا نعتمد كثيرا في هذا المجال على المساعدات الخارجية، فان لم تبن اليابان مدرسة هذا العام، فعلينا انتظار قرارها للعام التالي.. وهكذا. إنني أتوقع من السلطة الوطنية ورئيسها بالذات أن يهدي الشعب الفلسطينيين فورا وبدون إبطاء آلاف الغرف الصفية الجديدة، وأن يرصد، بالتنسيق مع وزارة التربية، المبالغ المطلوبة للوفاء بهذه المهمة الحيوية العاجلة.. وبهذا نكسب أولادنا ومدارسهم، وتكسب السلطة مصداقية عملية في أمر التنمية، ناهيك من فرص العمل التي سيوفرها مشروع كهذا. وبالتأكيد، ومن أبو مازن بالذات لا نتوقع القول من أين آتي بالمال.. فالجواب جاهز.. والمال متوفر.. وهو مال حلال، تم اقتطاعه في الماضي من لقمة عيش الفلسطينيين من اجل الادخار لليوم الأسود، ولا أظن ان هنالك يوما أكثر سوادا من أن يضطر أبناؤنا للتعلم في الخيم والطوابين.

ثانيا: الصحة:

بقراءة سريعة، لحجم الإنفاق على القطاع الصحي فإننا سنكتشف أرقاما خيالية، تم صرفها للعلاج خارج الوطن، وهي بمجموعها، توفر أرقى المستشفيات والمعدات، وأهم الخبرات الطبية الفلسطينية والعربية والدولية. لا نريد هنا فتح ملفات القطاع المستفيد من هذا النوع من العلاج الخارجي، فالعملية كلها محاطة بعلامات استفهام كثيرة، ولكن أما آن الأوان لوقف هذا كله.. لمصلحة تطوير منهجي لمستشفياتنا وقدرات أطبائنا وممرضينا ومعداتنا؟!

نعم.. لقد آن الأوان لذلك، ويجب ألا يظن أحد أن فتح ملفات التنمية يمكن أن يغلق ملفات التحرير.. فلا مصداقية لمستقبلنا إذا كان حاضرنا ضعيفا.. ولا مصداقية لرهاننا على الشعب إن لم نحسن توفير حاجاته الأساسية وأولها الصحة، لا احد يطالب بعلاج مجاني تعجز عنه دول كبرى، ولكن الجميع يطالب بعلاج راق ومتوفر، لا يرهق قدراتنا المالية ببعثرتها على الدول التي نرسل بعض مرضانا للعلاج فيها.

ثالثا: الماء:

كم بقي، حتى تصل المياه العذبة الى كل قرية وخربة في وطننا؟ كم هي الكلفة التي يمكن ان تتحملها السلطة لاستكمال مد شبكات المياه، من دون تجاهل أن هنالك مشاريع دولية قدمت الكثير في هذا المجال وستقدم؟

ان الجميع يعلم كم بلغت ضائقة الماء في بلادنا، وإذا كان إيماننا بالله مرسل المطر لا يتزعزع، ومن واجبنا التعايش مع إرادته.. فلماذا لا نشفع الدعاء ببعض القطران، كما يرشدنا ديننا الحنيف؟ لما لا نحل ما تبقى من هذه المشكلة الحيوية؟!

رابعا: الطرق:

لقد عملت السلطة الكثير في هذا المجال واستطاعت عبر تعاون وثيق مع الدول والهيئات المانحة، أن تمد آلاف الكيلومترات من الطرق الرئيسة والفرعية، غير أن المعضلة تكمن في عدم الاستكمال، وعدم قدرة بعض القرى وخاصة في المناطق التي اصطلح على تسميتها بالنائية أو الوعرة على تقديم الجزء الذي يتعين عليها تقديمه من المال اللازم لإتمام مشاريع الطرق.

إن السلطة.. تتحمل مسؤولية مباشرة في التمويل، والإعانة بما في ذلك منح مساعدات أو قروض طويلة الأجل للبلديات والمجالس القروية ولجان الخدمات.

إن جميع الدول والمجتمعات النامية، لم تستطع تحقيق تقدم جدي في مجالات التنمية، من دون أن توفر الطرق المناسبة التي تربط أجزاء الوطن وتوفر الملايين من الأموال المدفوعة لاستهلاك المركبات والشاحنات ووسائل النقل على كل المستويات.

خامسا: الشباب والرياضة والثقافة:

هنالك وضع يقر الجميع بانحداره المستمر، وهو نسبة العناية بالشباب والرياضة والثقافة، عبر المؤسسات المختصة في هذا المجال.. ولولا المبادرات الذاتية التي تشق طريقها بصعوبة بالغة، وتعيش على النقط كما يقال، لانهار هذا القطاع الحيوي تماما.. ولرأينا ـ لا سمح الله ـ بلدا بلا عقل وبلا روح وبلا رؤية.

إن دعم المؤسسات الثقافية والرياضية والشبابية القائمة في الوطن، وهي كثيرة العدد، وفقيرة الإمكانيات، ينبغي أن يتم وعلى نحو عاجل.. ولا أظن أن هنالك مشاكل معقدة تحول دون ذلك، إذ بوسع جهة ما، من ضمن المؤسسات الحكومية وحتى غير الحكومية أن تضع برنامج دعم يصل الى هذه المؤسسات وان تطور البنية التحتية الثقافية والرياضية في القرى والمدن والمدارس والجامعات، وأن نتوقف عن معالجة قضايا الشباب بمجرد توظيفهم على بنود البطالة، فقد آن الأوان للانتباه الى هذا القطاع العريض الذي هو المخزون البشري الحتمي لبناء البلد وتقدم المجتمع.

سادسا: المخيمات:

لقد وضعت هذا البند الهام، في نهاية هذه المقالة.. كي يظل عالقا في الذهن، وكي يجري تداول فكرته الجوهرية بهدوء ومسؤولية، والانتباه للمخيمات يتطلب وعيا لمعادلة وطنية ينبغي ألا تغيب عن الذهن لحظة..

إن كل ما استطعنا استعادته هو لنا جميعا وكل ما لم نستطع فمسؤولية استعادته تقع علينا جميعا.

هذه المعادلة، تحتم علينا التعامل مع المخيم بذات درجة الاهتمام في التعامل مع القرية أو المدينة المجاورة، ومن يتصور أن الكهرباء والمياه العذبة، والبيوت الصحية، ستصرف اللاجئ عن حقه، يكون مخطئا في حق اللاجئ وإنسانيته ووطنيته.

المخيم على أي ارض فلسطينية هو جزء منها، والمخيم خارج الأرض الفلسطينية هو مسؤولية أولى علينا، ولنفكر مليا في هذا الأمر.. ولنبدأ العمل.

وأخيرا:

لقد رفع الأخ أبو مازن، شعارا في غاية الصعوبة وهو.. «بدأت مرحلة الجهاد الأكبر»، وثارت ثائرة الإسرائيليين لاستخدام مفردة «الجهاد» من دون أن يدققوا كعادتهم في المعاني الحقيقية للأشياء..

إنني أقول بكل إيجاز، إن كل ما تقدم هو بعض ملامح «الجهاد الأكبر» ومهماته، فلتبدأ ورشة العمل في هذا الاتجاه، لنرى وطنا ومجتمعا جديرا بأن نعيش على أرضه وفي أحضانه، ثم نرى دولة حقيقية رائعة لشعب حقيقي مبدع هو الشعب الفلسطيني.

* وزير الإعلام الفلسطيني الاسبق