فتش عن «الأستاذ»

TT

سبعة أيام متواليات وهم يتكلمون، خمسون جلسة احتاجها التعليم وخمس وعشرون خصصت للترجمة، في الملتقيين اللذين نظمتهما «مؤسسة الفكر العربي» الأسبوع الماضي، كان بمقدور المنظمين خفض نصفها، لو أن المتحدث العربي يلتزم أصول المداخلات، ويعمل بقاعدة «فلتقل خيراً أو لتصمت»، ويعتذر حين لا تسعفه تجربته بجديد يقترحه.

لا نبالغ لو قلنا، إن بعض المشاركين كان وجودهم متعباً. وكثيرون منهم أرهقونا بالمقدمات والبديهيات والعودة إلى التاريخ. ورغم أنهم يعلمون أن لا أحد يجحد جهود الأجداد العباسيين في الترجمة، وليس من ينكر ان النظام التعليمي وصل إلى الدرك الأسفل، إلا ان استرجاع همم الخليفة المأمون لم يتوقف، وتعداد معايب الجامعات لم يهدأ.

توصيف مساوئ الحال، امتص الطاقات، وحين ينهي المتحدث اقتصاصه من الحاضر، يباشر باستشراف المستقبل، وهنا تبدأ ما سماها أحدهم «الينبغيات»، وهذه حالها أصعب، لأنها تبقيك في العموميات. إذ يقول لك المحاضر رافعاً الصوت ومتأزماً «لا بد من تطوير التعليم»، و«يتوجب تحديث المناهج»، ومن «الضروري الانفتاح على الثقافات الأخرى واللحاق بركب العولمة». وكلها جمل عصيّة، تتكرر كالمطرقة، ولا تعرف لها كيفية او مدخلاً. لم يتعب أحدهم نفسه ليعطينا نموذجاً صغيراً في تخصص متواضع، ويرسم لنا التفاصيل الدقيقة التي توصلنا إلى سد ثغرة بعينها. الكل يريد أن يحل كل المشكلات دفعة واحدة، وبخطبة عصماء.

فهل يعقل أن يكون خطاب كبار الأكاديميين بمستوى خطاب عامة الناس، من حيث الضبابية والشمولية والتعميم. وإن كان الأمر كذلك، فلا عجب أن يهبط التعليم، وينزلق صوب الهاوية، واساتذته لا منهج لهم في المحاضرة، ولا علم بمهارة الاختصار وعلم التلخيص، وأصول الاختزال. ويطالبون بالحداثة التعليمية بخطاب ما قبل تقليدي.

والأدهى أن الهجمة في الملتقيين ركزت على التمويل. المترجمون يطالبون بميزانيات ضخمة، والأساتذة الجامعيون، يرمون باللائمة على الشح المالي، وكل هذا كان ليبدو حقيقياً لو أنهم أخذوا المبادرة بالاشتغال على مناهجهم الذاتية، ومعارفهم الشخصية اولاً، ليكونوا جديرين بالسخاء الذي يتمنونه على طبق من ذهب. ليس في ما نقول إعفاء للحكومات من المسؤوليات، إذ أن من رأينا وسمعنا وقرأنا، هم موظفون أكاديميون في غالبيتهم، تركتهم جامعاتهم، يستجمون في قاعات التدريس وخارجها، حتى وصلوا الملتقيين الأخيرين لمؤسسة الفكر العربي، بخطابات سياحية، أكثر مما هي أكاديمية.

ولعل الأمر الأهم، الذي لم يركز عليه ملتقى التعليم، هو تعليم الأساتذة وإعادة تأهيلهم، وتدريبهم الدوري، وإرغامهم بحكم مهنتهم، على تقديم أبحاث دورية، تخضع لرقابة وتقييم لجان صارمة، لا تسمح بتسلل المهازل البحثية، التي باتت أساساً في تخريب التعليم، وقبلها التربية على الخلق القويم. فهذا أستاذ يسرق ويحوّر ويغير كي لا يكتشف أمره، وآخر يترجم وينسب لنفسه، ظاناً ان أحداً لا يقرأ في اللغات الأخرى غيره، وذاك لم يفكر أصلاً في عمل بحث طوال عمره، لأن جامعته لا تحاسب ولا تعاقب.

«الجودة» التي تكلم المشاركون عنها حتى أنهكوا، تبدأ بالأستاذ، وتنتهي بالتلميذ وليس العكس، كما أحبوا أن يوهمونا. ومن دون الأستاذ الجامعي، الذي يأكل الكتب كالجرذ، ويسهر الليل بحثاً عن جديد، ويقلّب صفحات الانترنت، ليصل إلى ما فاته، لا أمل في تعليم ولا متعلمين. وإذا كان من وصفة ترجى للنهوض و«الجودة»، فهي عند السادة المتحدثين والمنظرين، وليست عند غيرهم. ويجب أن نراهن جميعاً على أن ما تحتاجه الجامعة العربية المنهارة، هو أولاً، أن يتوقف الأساتذة عن الأقوال لصالح الأفعال والأبحاث. لم تبتكر فكرة المؤتمرات والملتقيات هباء، ولا هي من دون فائدة تذكر، لكن الحد الأدنى من الصدق ونقد الذات، وتسمية الأشياء بأسمائها يجعلها أجدى وأنفع. وكنا نتمنى لو أتى الأكاديميون، ليحدثنا كل منهم بشفافية الباحث الرصين عن نواقصه، وعوراته، والتجارب التي اختبرها بنفسه مع طلبته، وأين أصاب فيها، وأين أخطأ، بدل أن يتحدث الجميع عن «النظام العربي التعليمي» و«التحدي الحضاري» و«المستقبل العربي في مجال البحث» و«تقنيات التعليم»، و«التخطيط العلمي»، وهي كلها شعارات تصلح لوضعها على يافطات مظاهرة تسير في الشوارع، أكثر مما هي صالحة كموضوع لكلمة أو بحث، يقدمه أكاديمي ليسعف في مساعدة من حوله، وينعش اليتامى والضائعين في متاهة التعليم.

مرة أخرى يبقى التلميذ هو كبش الفداء، والمتربعون على كراسي الأستذة لاهون عنه على ما يبدو، من دون عزم على صحوة ولو متأخرة، تخرج الشبيبة من ظلماتها.

ويجب بعد كل هذا، أن لا يسأل واحدنا عن العنف المستشري، واليأس المستفحل، والبطالة المقنعة، والانهيارات الاقتصادية، والانحرافات السلوكية. واخطأ من قال ذات يوم «فتّش عن المرأة»، ولو قرأ ما كتبه أساتذة الجامعات في إصلاح التعليم اليوم، وراقب خططهم المقترحة، بهالاتها اللفظية، وزخرفها اللغوي، وإنشائها المضجر، لقال من دون تردد: «فتّش عن الأستاذ».

[email protected]