كارين هيوز: صورة أمريكا بين فانوس رمضان ورغيف الخبز

TT

ها هي السيدة هيوز بعد أن حصلت على الموافقة السامية تبدأ أولى زيارتها للمنطقة العربية بمصر والمملكة العربية السعودية وتركيا في محاولة منها لتبييض الوجه الأمريكي الذي اسود كثيرا من جراء إدارة يمينية أمريكية متطرفة قدر لها أن تحكم لفترتين متتاليتين معلنة بهذه الجولة انطلاق أعمال فرق الرد السريعة.

لكن التساؤل الذي يطرح نفسه على الساحة يتعلق بجوهر هذه المهمة لا مظهرها، فهل تبغي من ورائها وعن حق وصل ما قد انفصل ولا سيما مع العالمين العربي والإسلامي أم انه يجب أن يكون سوء الظن هذه المرة من حسن الفطن؟

والمؤكد أن الحديث عن أبعاد خطط فرق الرد السريعة يطول والعبارات الغامضة فيه عديدة منها على سبيل المثال أنها ستنشر القيم والمثل العليا الأمريكية بواسطة أربعة أركان هي التواصل والتبادل والتربية والتسليح بالحقوق وكلها مصطلحات واسعة مطاطة لا مجال فيها لأي موازنات تكفل الندية في التعامل و كلها تعطي الطرف الأقوى مجال حركة مطلق على حساب الطرف المذعن.

إلا أن ما يثير الشكوك ويجعل من الهواجس حقائق هو أن نفس الخطة مطبقة في جانب كبير منها من قبل بعض المنظمات الصهيونية في أمريكا وعلى رأسها معهد MEMRI الذي يراقب كل ما يكتب وينشر في وسائل الأعلام العربية عن إسرائيل وسياساتها ومن ثم يترجم ويستخدم كورقة ضغط عند الخارجية الأمريكية.

ومما لا شك فيه أن هذا المشهد يحمل المرء على استرجاع صورة من ماضي أميركا في الخمسينات وأوائل الستينات فيما عرف بالمكارثية نسبة إلى الجنرال الأمريكي ماك آرثر الذي قاد حملة داخل بلاده ضد الأفكار اليسارية، خوفا من انتشارها في المجتمع الأمريكي إبان احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي

فهل جاءت كارين هيوز لتقود تحت مسميات أكثر أناقة ولباقة حملة مكارثية بثوب يلائم العصور الحديثة ضد العرب والمسلمين بصورة خاصة، ولا سيما أن الرئيس بوش يستمع لرايس وهيوز بشكل مطلق؟

وإذا كانت خطط فرق الرد السريعة تدعو للتواصل مع الجماهير الأجنبية حتى تدرك هذه أن أمريكا تتشارك مع حكوماتهم لتحسين حياتهم على حد تعبير هيوز فهل سيبدل هذا الاتجاه من الطريقة التي يفكرون بها في أمريكا؟

في تقديري إن الفيصل هنا هو مدى تغير السياسات الأمريكية التي تعد الأصل والجوهر وهي الكافية كما تقول هيوز حال تحسنها بالتصدي للدعايات الحاقدة وتبديد الأساطير الخطرة واستخراج الحقيقة أما الاكتفاء بالمظهر الخارجي فهو أمر لن يزيد إلا من تشويه الصورة الأمريكية.

والحاصل أن الخطط الجديدة وعلى حد تصريحات رايس ما هي إلا محاولة مجدبة لإعادة تلوين الوجه الأمريكي بأصباغ مزيفة إذ تنفي رايس أي أمل في تغيير حقيقي بقولها «ما لا أريد أن المح إليه هو أننا سنغير سياساتنا لأنها لا تحظى بالقبول، أنها مشكلة شاقة فالدبلوماسية الشعبية لن تساعدنا في الحقيقة انه ما يزال هناك بعض المشاكل الصعبة التي سيتعين علينا التعامل معها».

والمعنى بوضوح انه لا تغيير في جوهر السياسات الأمريكية، وان الحاصل إذن هو حلقة جديدة من الحلقات المفرغة التي تبغي من خلالها واشنطن تسويف الوقت، لحين الانتهاء من تنفيذ كافة برامجها والتي تتعارض شكلا وموضوعا مع أبعاد الخطط موضوع الحديث، وان أمريكا لم تحاول الإجابة عن التساؤل الجوهري، لماذا يكرهوننا وهل هم الذين يشوهون صورتنا أمم نحن بسياساتنا الذين نشوه صورتنا بأنفسنا؟

وما يدلل على صدق توجهنا هو أن هذه المحاولة وبرغم أنها اكتسبت زخما إعلاميا، إلا أنها ليست الأولى في هذا المجال، ففي الأشهر القليلة الماضية صدر تقرير لا يقل أهمية عن الكثير من الأوراق التي طرحتها رايس وهيوز وكان قد اعد من قبل المجلس العلمي التابع لوزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون وقد دعا لتغيير جذري لسياسات واشنطن العامة واستراتيجياتها الإعلامية وآليات هذه الاستراتيجيات.

كانت النتيجة النهائية التي وصل إليها التقرير هي أن القاعدة والمتطرفين الإسلاميين هم الفائزون في حرب الدعاية ضد أميركا، وان سياسات إدارة بوش في الشرق الأوسط وفشلها الكامل في فهم العالم الإسلامي، وافتقارها للخيال في استخدام تكنولوجيا الإعلام والتواصل، كلها أسباب وراء هذا الفوز الذي تحققه الجماعات الأصولية.

ويؤكد التقرير الذي يتكون من 111 صفحة أن الاستراتيجية الإعلامية هي مكون فعال بالنسبة للأمن القومي الأمريكي، ولهذا يجب أن يتم تغييرها والتعامل معها بمزيد من قوة الإرادة التي تتسق وفقا لما جاء في التقرير، مع الالتزام الأمريكي بالدبلوماسية والدفاع والتخابر وتنفيذ لقانون والأمن القومي، ولهذا فان تعاون الحكومة مع القطاع الخاص في هذا الصدد وعلى نطاق واسع يصبح أمرا ضروريا.

وقد دعا التقرير كذلك صانعي السياسة الأمريكية إلى تخصيص المزيد من الوقت للاستماع إلى جمهورهم المستهدف، واستخدام خطاب يبعد عن مفاهيم عجرفة القوة والانتهازية والمعايير المزدوجة.

لكن ردود الإدارة البوشية على التقرير تمثلت في المزيد من غطرسة صقر الصقور في الأمم المتحدة جون بولتون، إضافة إلى غطرسة رامسفيلد الديكتاتورية، وهذه كلها شكلت تجسيدا لأمريكا التي يريد بوش أن يقدمها للعالم على أساس أنها المنقذ من الآلام ومنتهى الأحلام.

وأخيرا نتساءل هل هذه الخطط محكومة بالفشل مسبقا؟

نضع أمام القارئ عدة مشاهد توضح الازدواج الأخلاقي الأمريكي في جوهره ومخبره ويمكن من خلالها الحكم على مستقبل تلك الخطط منها على سبيل المثال وليس الحصر

** الجنرال الأمريكي بيتر شوماكر يصرح بان قيادته تدرس خطط إبقاء القوات الأمريكية في العراق لأربع سنوات قادمة أي استمرار الاحتلال الأمريكي للعراق أربع سنوات أخرى ولابد للعراق ولشعبه خلالها أن يعاني المزيد من الألم والمرارة.

** أمريكا تحث إسرائيل على أن لا تكتفي بالانسحاب من غزة بل يجب عليها أن تمارس شتى أنواع الضغوط على السلطة الوطنية الفلسطينية لنزع سلاح الفصائل الفلسطينية المقاومة كحماس والجهاد وغيرها حتى يتسنى التقدم على طريق السلام وهي دعوة ظاهرها الرحمة والسلام وباطنها تحريض علني على الاحتراب الداخلي.

** المشهد الثالث أعرب عنه منفريد نواك المبعوث الخاص بالأمم المتحدة والذي أشار إلى توافر معلومات عديدة حول وجود أماكن اعتقال سرية تسيطر عليها أمريكا حيث ترددت مؤخرا الشائعات حول إمكانية أن تكون أمريكا تستخدم سفنا موجود في عرض المحيط الهندي كسجون تضع فيها المعتقلين المتهمين بارتكاب أو التخطيط لأعمال إرهابية.

** بيير ريتشارد بروسبر السفير الأمريكي المتجول والمسؤول عن المسائل المتعلقة بجرائم الحرب يرفض فكرة مساءلة أمريكا عن انتهاكات حقوق الإنسان فيها قائلا «نحن لا نريد أن نكون طرفا في إضفاء الشرعية على محكمة الجزاء الدولية».

** هذا التسارع المخيف جهة الملف السوري الذي يتراوح بين التهديدات العسكرية المباشرة والتطمينات المفزعة إن جاز التعبير في ذات الوقت ناهيك عن ملف إيران المفتوح والمرشح للتصاعد بشكل كبير الأيام القادمة.

والشاهد أن كاتب هذه السطور والذي قدر له أن يمضي بين الأمريكيين زهاء عشر سنوات، يدرك وعن حق أن عددا وافرا من الشعب الأمريكي يحمل بين ضلوعه طيبة وسخاء، ويكن احتراما كبيرا لذوي الديانات والأعراق المغايرة، لكن الطامة الكبرى أن الغالبية العظمى منه إما مغيبة بفعل فرق الأكاذيب الإعلامية الأمريكية الداخلية، أو انه لا يملك مقدرة فعلية على التأثير في سياسات بلاده الخارجية بعد أن اختطفت الحكومة الأمريكية لفترتين متتاليتين من قبل جماعات الضغط، التي تحاول إعادة رسم ووسم جسمها ورسمها بأصباغ بالية، تزول مع أول صدام بالحقيقة المرة التي تعيشها أمريكا، والتي احسب جازما أن كاترين هيوز أو غيرها لا يملك من أمر إعادة تصحيح صورتها شيئا، طالما بقي ساستها يعيشون أوهام الشعب الآري، ويؤمن رئيسها انه المخلص الجديد لجنس البشر، مهما حاولت دغدغة مشاعر المسلمين بحملها لفانوس رمضان في منطقة الأزهر، أو قضم قطعة من الخبز الشمسي المصري الشهير أمام عيون آلات التصوير.

* كاتب مصري