ما يطلبه المستمعون!

TT

تصل رتابة الحياة بـ «دينو» بطل قصة (السأم) للبرتو مورافيا إلى الحد الذي يفقد كل اهتماماته فيستسلم في يأس من إنصاف الآخرين له، ويغرق في تشابهات الأيام فيصبح أمسها في دواخله مثل يومها مثل غدها، وحينما يحاول الهروب من هذه الحالة المزاجية بالرسم سرعان ما يغمد سكينه في قلب لوحته وهو يصرخ: «من السهل ان أرسم ما يعجب الناس، ولكني لا استطيع أن أخدع نفسي».

وإشكالية «دينو» قد يعيشها البعض من الكتاب والمفكرين والفنانين والعلماء الذين بمقدورهم أن يفعلوا ما يرضي الناس، ولكنهم يمتنعون عن ذلك الفعل لكونه يتباين مع قناعاتهم، فليس سهلا على هذا (البعض) أن يتحول إلى «ما يطلبه المستمعون» يكتب أو يرسم أو يفكر أو يعزف أو «يدبك» على إيقاعات تأتي من خارج ذاته ينافق بها عصره أو يتقي بها سطوة الزمن، حاله كحال غاليلو الذي اضطر أن يكتب تعهدا بأنه يتخلى عن فكرة دوران الأرض، فكتب ما أرادوا لكنه ختمه بالقول: «ومع ذلك فإنها تدور!».

ولربما يشكل الموت لحظة الانعتاق الحقيقية التي يفلت فيها المبدع الصادق من قبضة الآخرين حينما يعترفون باستقلاليته ويتأملون قيمته الجوهرية، وهذا ما دفع أديب إيطاليا بيراندللو إلى القول: «إن على المبدع أن يعلن موته في الوقت المناسب، وأن يغلق على نفسه الباب ثم يقف حارسا عليه»، وقد فعل الموسيقي الألماني كارل ماريا فيبر شيئا قريبا من ذلك حينما أعلن موته، فتسابق خصومه في الإشادة به ووصفه بكل النعوت الجميلة، ليظهر بعد ذلك من جديد وهو يقول لهم: «لم يعد بوسعكم الآن أن تقولوا شيئا قبيحا عني!».

وقد أدرك الأديب المصري يوسف السباعي الحقيقة التي يجلبها الموت فكتب في مقدمة روايته «أرض النفاق» يستعجل الإنصاف وهو حي، فيقول: «إني أريد كل شيء وأنا حي، أريد ما بالدنيا وأنا في الدنيا.. أبغي المديح الآن، والتقدير الآن، وأنا أسمع وأحس، فما أمتعني شيء كسماع المديح والتقدير. قولوا عني مخلصين وأنا بينكم إني كاتب كبير قدير شهير، وإني عبقري ألمعي لوذعي، فإذا مت فشيعوني بألف (....) واحملوا كتبي فاحرقوها على قبري، واكتبوا عليه: «هنا يرقد أكبر حمار، أضاع عمره في لغو وهذر». ولعل الأديب الروسي تشيكوف كان قريبا من هذا التفكير وهو يقول: «إنهم يأخذونك إلى المقبرة، ويدفنونك، ثم يعودوا ليشربوا الشاي، وليتشدقوا بمديح فيك لا يغنيك».

فما أتفه المجد الذي يجعلك تخنق نداء الحياة في داخلك فترتدي أحذية الآخرين تقودك إلى خارج ذاتك التواقة إلى التعبير عن حقيقة جوهرها، فتكون غريبا في عيون نفسك والآخرون غرباء في عيونك.

[email protected]