مأساة العراق: تفكير أميركي خاطئ.. المخرج: تفكير جديد صحيح

TT

«لا نستطيع أن نساعد من لم يساعد نفسه».. جون كيندي: الرئيس الأميركي الأسبق.

وقد توجه كيندي بهذه الكلمة الحكمة إلى (العالم الثالث) الذي كان ينتظر العون الأميركي الاقتصادي.. ومن المناسب: الاستدارة بهذه الحكمة 180درجة لكي توجه الى الولايات المتحدة اليوم، ذلك أن هذه الجمهورية الضخمة أحوج ما تكون الآن إلى (المساعدة) بالرأي.. والشورى.. والنصح.. و.. و. و (النقد)، ولا سيما فيما يتعلق بالوضع في العراق الذي تورطت فيه الى حد الاختناق بحكم سلسلة من الأخطاء الجسيمة المدمرة: خطأ كذبة أسلحة الدمار الشامل.. وخطأ كذبة وجود علاقة بين النظام العراقي الهالك وبين تنظيم القاعدة.. وخطأ غزو العراق بناء على الكذبتين الكبيرتين (ولا يقولن قائل هذه مسائل طواها التاريخ، إذ لا تزال آثارها الفادحة المرعبة تحكم العراق وتشقيه).. ولقد دُعمت هذه الأخطاء بأخرى: خطأ الإدارة الغبية للعراق بعد الاحتلال وهو خطأ تناسل منه: خطأ حل الجيش العراقي كله (وكان طرف معين في المعارضة العراقية قد بنى مستقبله السياسي على هذا الاجراء، وخطأ سياسة (فرق تسد) التي نادى بها مارتن انديك علنا.. وخطأ قانون بريمر.. وخطأ تسويق الأوهام وبيعها مثل: العنف المسلح قصير العمر جدا، فهم شرذمة قليلون سيسحقون بسرعة (قيل ذلك بعد الاحتلال بشهرين)، وأنه بمجرد أن تجرى انتخابات تشريعية سيستقر الوضع الأمني والسياسي والاجتماعي.. ثم جرت الانتخابات فازداد العنف من حيث الكم وتعقد من حيث الكيف.. وعلى الرغم من ذلك: استمر تسويق الأوهام وبيعها، فوراء (الصراع) بكتابة الدستور على عجل: وهم: ان وضع الدستور سينهي التدهور الأمني، ويحسن الوضع المعيشي، ويدخل العراق في حقبة جديدة وواعدة من الاستقرار السياسي، والتعايش المذهبي، وكأن السطور على الورق هي التي تفك الألغاز، وتحل المعضلات، وتشفي الأرض ومن عليها وما عليها من الأزمات؟!

بدون كبر! ومن غير استخفاف بالعقول، وبلا تضليل للرأي العام: ينبغي الاعتراف بأن الولايات المتحدة تبحث عن (مخرج) من (المأزق العراقي) الساحق الوطأة والآثار على اقتصادها، وأرواحها البشرية، وتماسكها الداخلي، وصورتها الخارجية.

هذه نقطة جد صريحة.. وبالصراحة ذاتها نقول: ان للمنطقة مصلحة مؤكدة في ان تنتهي الاوضاع في العراق الى نهايات مؤسسة على وحدته السياسية والجغرافية وعلى هويته التاريخية والحضارية.. وعلى التعايش المذهبي والاجتماعي.. وعلى تمتع العراقيين كافة بما فيه من ثروات وخيرات طالما حرموا منها في ظل حكم شديد الطغيان، شديد السفه في التصرف في تلك الثروات والخيرات.

وبذات الصراحة في السطور الآنفة: ينبغي الجهر الموضوعي والأمين والشجاع: بأن العراقيين جميعا، والعرب كافة، وأهل الأرض قاطبة لن يستطيعوا مساعدة أميركا في هذا المجال: ما لم تساعد أميركا نفسها: وفي الأثناء، ومن بعد.

كيف تساعد أميركا نفسها؟

خلاصة التجربة الأميركية المريرة في العراق تلقى سؤالين أساسيين فاصلين:

أ ـ هذا التوحل الأميركي في العراق الذي رجم العراقيين والأميركيين واطرافا أخرى عديدة بشواظ وحمم من الكروب والتعاسات والأهوال والآلام.. هل كان هذا التوحل مرادا ومقصودا لذاته؟.. إن العقل والمصلحة لا يستسيغان الجواب بـ (نعم) عن هذا السؤال.

ب ـ أو أن التوحل المهلك: جاء (نتيجة) طريقة تفكير خاطئة: في بناء المقدمات، وتصور الآثار؟.. على الرغم من أن الجواب بـ (نعم) جاف ومفجع ومؤلم، لكنه هو الجواب الصحيح في الغالب!! وهو على كل اهون وأرحم من ان يكون التوحل مرادا ومقصودا.

وهنا، يعاد طرح السؤال السابق: كيف تساعد أميركا نفسها على الخروج من (الضنك) العراقي؟

تساعد نفسها بـ (تغيير جوهري وعاجل في طريقة التفكير التي تناولت بها الشأن العراقي وأدارته): منذ مذكرة غلاة المحافظين الجدد إلى بنيامين نتنياهو في أواسط التسعينات من القرن الماضي وحتى اليوم، وهي المذكرة التي نصحت بإحداث زلزال في العراق يبدل طبيعة هذا البلد، ويغير دوره: في الحاضر والمستقبل.

التغيير الجوهري والصحي المطلوب في طريقة التفكير الأميركية هو:

1 ـ التحرر من التفكير القائل: بأن كل ما تراه أميركا صحيح وصائب فالولايات المتحدة ليست (إلهاً) بل هي بشر من البشر الذين كتب عليهم ـ بحكم طبيعتهم ـ: الخطأ والصواب. وبانتفاء هذا الادعاء. فإن دعوى الصواب المطلق هي منطق فرعوني استبدادي يلغي ارادات الآخرين، وعقولهم، ووجهات نظرهم: «ما اريكم إلا ما ارى وما أهديكم إلا سبيل الرشد».. وليس من قيم أميركا ولا من تقاليدها: أن تتجه هذا الاتجاه.. بيد أن مأساة العراق: دليل على (الانفراد بالرأي) في شؤون ذات علاقة وثقي ومباشرة بالعراق والإقليم والعالم. وهذا ما أفزع شريحة واسعة من الصفوة الأميركية من الدبلوماسيين والعسكريين السابقين الذين أصدروا وثيقة قوية قالوا فيها: «لم يجد العالم في يوم من الايام: أميركا كمصدر خوف له مثلما يجدها الآن.. ولذا فأميركا محتاجة لـ (تغيير). انه منذ البدء اتخذت الإدارة: موقف الغطرسة والاستعلاء من دون شعور تجاه ما يقلق الحلفاء والاصدقاء التقليديين، وفي ازدراء واضح للأمم المتحدة، فإن الإدارة المدفوعة بالايدلوجيا اكثر مما هي متجاوبة مع التحليل العقلاني: انطلقت بمفردها وقادت الولايات إلى حرب سيئة التخطيط ومكلفة ويحيط الغموض بكيفية الخروج منها».

2 ـ التحرر الفكر السياسي المعلوماتي من ذهان الاصغاء الى (المعارضات) الكذوب ذات الاهواء السياسية والمذهبية والشخصية والتي رفعت شعار (نريد السلطة ولو بالتضحية بآخر جندي أميركي)!!

3 ـ الفصل ـ في التفكير والقرار ـ بينما هو أميركي وما هو صهيوني.

4 ـ التثبت الموضوعي والاخلاقي مما تقدمه مراكز البحوث والدراسات، فكثير من هذه المراكز يصنع (ضمائر) القرار. وكثير منها ـ بالتالي يلون الرأي والمشورة بأهداف غير أميركية، وعلى نحو فيه من الدهاء ما يجعل المشورة تنضح بالغيرة على المصلحة الوطنية الأميركية العليا.. وحين يخون المستشار: تخرب الدولة والديار.

5 ـ تكوين رؤية جديدة ـ بعد تقويم صارم وأمين لما حدث ـ. ويتبنى على الرؤية الجديدة مخارج كريمة وعملية. صحيح انه يتعذر تحقيق أهداف عظيمة (فحين تعلق الأرجل بالوحل يصعب الركض أو الجري الطليق)، لكن المكاسب النسبية مهمة جدا في مثل هذه الظروف. وليس مستحيلاً أن توجد المخارج العاقلة والواقعية. والشرط الأساسي لإيجادها هو: إغلاق الأذنين كلتيهما عن سماع مشورات ونصائح اسرائيل. ونصائح تابعيها في واشنطن (في الشأن العربي بخاصة). وإغلاق الاذنين ـ كذلك ـ عن سماع مشورات العابثين المستهترين العرب من حكام ومثقفين واعلاميين ـ وباحثيهم «!!» في الشأن العربي الإسلامي.. وتتمة الشرط: تجديد الثقة بين أميركا وبين حلفائها واصدقائها وأصحاب الرأي الحر الذي قد يغضب. ولكنه ينفع ويخرج من المأزق.

6 ـ المهم هو: الاستجابة للنصح الأميركي الصادق نفسه، وهو نصح يدعو ـ بجد ـ الى التغيير والتجديد في طرائف التفكير الأميركية: في السياسة الخارجية على وجه التخصيص.. في يونيو عام 2003 كلف الكونجرس الأميركي لجنة خاصة بدراسة (صورة أميركا في العالم العربي الاسلامي). مع ما تقتضيه الدراسة من تقويم للسياسة الخارجية ومن اقتراحات إصلاحية عملية. واختير لرئاسة اللجنة الدبلوماسي الأميركي المخضرم: اداوراد جيرجيان. ولقد كتب جيرجيان ولجنته تقريرا مفصلا. ومما جاء في هذا التقرير:

أ ـ «تتطلب الدبلوماسية أولا وقبل كل شيء توجيهاً استراتيجياً رئاسياً مصوغاً بشكل جدي وملتزم بحيث يكون متوافقا مع جدية اسلوبنا في التعامل مع الدفاع القومي والتقاليد الدبلوماسية».

ب ـ «تحتاج الولايات المتحدة الى تغيير الطريقة التي نشرح بها قيمنا وسياساتنا وندافع عنها، وكذلك الطريقة التي نستمع بها لما يقوله الآخرون لنا، ليس فقط الدول العربية والاسلامية، بل شتى دول العالم. وهذا التغيير يتطلب وضوحا وتوجها استراتيجيين جديدين لدبلوماسية فاعلة وناجحة».

جـ ـ «ينبغي إقامة توازن جديد بين الأمن والتفاعل مع الآخرين بحيث لا تتحول سفاراتنا ومرافقنا الأخرى إلى ما يشبه قلاعا معزولة عن الناس المحليين».

د ـ «ان العرب والمسلمين يؤيدون قيمنا في «المجلة»، ولكنهم يعتقدون أن سياستنا تتناقض مع هذه القيم.. والمشروع الاكبر للدبلوماسية الأميركية الجديدة هو: القضاء على هذا التناقض عبر اتصالات فاعلة واستماع ذكي».

فهل تستجيب الإدارة الأميركية للمطلب الأول والضروري في برنامج الخروج من المأزق العراقي. وهو: مباشرة طريقة تفكير جديدة: أصح وأنفع وأكرم؟

إن التفكير الخاطئ ـ والقرار المبني عليه ـ أديا الى مأساة القرن الحادي والعشرين في العراق. وما لم يحدث تغيير جوهري في طريقة التفكير، فإن أن المأساة سيطول، مهما كانت كمية المسكنات وطلاء المكياج.

وليس من التفكير السديد الجديد في التعامل مع العالم العربي والإسلامي، والتعاون على ردع الإرهاب، والخروج من الوحل: التورط في مفردات وأفكار مهيّجة لمسلمي العالم، مثل «الفاشية الإسلامية»، وإقامة «امبراطورية اسلامية راديكالية تمتد من إسبانيا الى اندونيسيا».. أيّ تفكير مهيّج هذا ؟.. وهل تطفأ النيران بمزيد من الوقود الملهب المؤجّج؟.