مشكلة تركيا مع أوروبا.. تأجلت ولم تحل!

TT

تولت بريطانيا رئاسة الاتحاد الأوروبي في ظروف صعبة عقب رفض الناخبين في فرنسا وهولندا دستور أوروبا الموحدة، وامامها تنفيذ اجندة عمل أكثر صعوبة. كالتوصل الى اتفاق، بين 25 دولة، على اطار ميزانية عشر سنوات من 2002 الى 2013، مع تجميد الزيادة السنوية في تعويض اوروبا للاشتراك السنوي البريطاني، وهو حق كسبته الليدي ثاتشر اثناء توليها الوزارة في الثمانينات بمفاوضات شاقة. البند الآخر الذي لا يقل صعوبة وأيضا محل خلافات عميقة بين الاعضاء، هو بدء مفاوضات عضوية تركيا في الاتحاد.

وبدلا من ان يقود وزير الخارجية جاك سترو كورس احتفال الترحيب ببدء المفاوضات لتحقيق الحلم التركي في مطلع الأسبوع، قضى ساعات طويلة بلا نوم في مفاوضات مضنية بسبب مناورة المحور الالماني وتشجيع خفي من المحور الفرنسي، وان خرجت الدبلوماسية البريطانية، كعادتها، منتصرة في النهاية.

افسدت النمسا الحفلة باقتراحها منح تركيا، «امتياز شراكة خاصة» بديلا عن العضوية الكاملة الموعودة منذ ديسمبر الماضي. وتمكنت الدبلوماسية البريطانية في الساعات الأولى من الأزمة من عزل النمسا، رغم التأييد الخفي من اطراف اوروبية.

انكشفت اغراض مناورة النمسا بتنمية محور بروسيا القديم (الالماني اللسان) بأن عادت الى قبول الإتفاق الأصلي مقابل استئناف مفاوضات عضوية كرواتيا الألمانية الثقافة، بعد تجميدها في مارس هذا العام لتقاعسها عن التعاون مع الأمم المتحدة في تعقب وتسليم مجرمي حرب البلقان، لكن بتوقيت، يصعب تصديق ان يكون مصادفة، إذ صدر من لاهي اعلان كارلا دي بونتي مدعي الاتهام للأمم المتحدة ضد مجرمي الحرب، ان كرواتيا متعاونة وتبذل اقصى الجهود، مما اثمر عن استئناف مفاوضات عضوية كراوتيا للاتحاد الأوروبي، وهو هدف استراتيجي بعيد المدى للنمسا.

لكن دبلوماسية الوزير سترو أجلت الأزمة ولم تحلها نهائيا. فالنمسا ستتولى، في مطلع العام الجديد، رئاسة الاتحاد الأوروبي، ويحتمل ان تعيد احياء فكرة استبدال عضوية تركيا الموعودة بامتياز الشراكة. والفكرة تروق لكثيرين مثل نيقولاس ساركوزي، الديجولي الذي يتمتع بشعبية كبيرة تؤهله لكسب انتخابات الرئاسة الفرنسية لعام 2007. ويشمل حلف المعارضين لعضوية تركيا انجلا ميركيل، المتوقع قيادتها لالمانيا بعد فوز حزبها بمقعد جديد في البوندستاج الالماني المعلق. ولا تزيد نسبة الأوروبيين المرحبين بعضوية تركيا على 35% حسب استطلاع مؤسسة يوروباروميتر.

وتضيف هذه الأرقام لهواجس صعوبة تحقيق المطالب البريطانية بأن يتفاوض الاتحاد الاوروبي بنية خالصة تثبت حسن نوايا المفوضية للشعب التركي، ولشعوب اسلامية فقدت الثقة في التزام الاتحاد بوعوده.

بريطانيا تتزعم اقلية اوروبية ترى في دمج كامل لتركيا جسرا ثقافيا بين الغرب والشرق، وتزاوجا حضاريا من اجل السلام بين الثقافة الغربية المسيحية وثقافات البلدان الإسلامية. وترى بريطانيا في التزام تركيا بقائمة طويلة من الإصلاحات قدمتها اوروبا لأنقرة، مكسبا ديموقراطيا للشعب التركي، وتطويرا مهما للإسلام المعاصر من الداخل، بفصل الدين عن الدولة، وتحويل العقيدة من مؤسسة تتسلط على حركة الفرد وتعرقل ابداعه، الى ايمان روحي يختاره الانسان المسلم بنفس حرية اختيار الاوروبي بحرية نتيجة توازن علاقة الكنيسة والفرد والدولة الليبرالية الغربية.

و فوز بلد اسلامي بعضوية اوروبا لتمكنه من الاصلاح الديموقراطي وتحسين حقوق الانسان، سيكون حافزا لبلدان اخرى على تطوير دساتيرها لمزيد من حماية الحقوق المدنية ومتابعتها لتطور حقق النجاحات والرفاهية للمواطن التركي دون ان يفقد ايمانه الروحي بالإسلام.

ولبريطانيا اهداف استراتيجية اخرى لضم تركيا، وسط معارضة من الشعوب الأوروبية لدمج 70 مليون مسلم، فالحل الوسط سيعرقل خلق فيدرالية الولايات المتحدة الأوروبية كدولى عظمى تنافس أميركا، الحليف الاستراتيجي لبريطانيا، لتظل لندن الجسر الدائم عبر الأطلسي.

انضمام كرواتيا يقوي المحور الألماني النمساوي، المتحالف مع المحور الفرانكوفوني المناهض للنفوذ البريطاني، انضمام تركيا وهي حليف تاريخي لبريطانيا، سيقوي من محور من دول اوروبا الجديدة، تقوده لندن ضد المحور الفرانكوالماني.

البعض الآخر يرى ان عدم التوصل لاتفاق مبكر حول الشروط النهائية لانضمام تركيا لأوروبا سوف يعمق الأزمة حول مستقبل الوحدة الأوروبية، بعد اتجاهات رفض مسودة دستور الوحدة، ومشكلة الميزانية، مما يؤثر على ثقة الشعوب بزعماء يمارسون سياسات ترفضها الشعوب.

ولا يقتصر الرفض على معارضة الأوروبيين لامتصاص 70 مليون مسلم، فهناك خوف على الأرزاق من تدفق العمالة، على البلدان مرتفعة المستوى المعيشي ويقبلون بأجور يفضلها اصحاب العمل.

وعلى الجانب التركي تنشط التيارات القومية المتربصة برئيس الوزراء رجب اوردوغان، الذي تراه يقدم لأوروبا تنازلات مهينة. عضوية اوروبا تحرم الأعضاء حق الاعتراض على انضمام اعضاء آخرين لمعاهدات وأحلاف اخرى، مما ستنزع من انقرة ورقة منع قبرص اليونانية من الانضمام لحلف شمال الاطلسي. وربما تؤدي ضغوط القوميين الاتراك على اوردوغان الى تباطؤ في تنفيذ الاصلاحات التي تطلبها اوروبا، رغم انه قطع شوطا كبيرا فيها، كإلغاء عقوبة الاعدام واعتماد تدريس اللغة الكردية التي كان محرما استخدامها وإلغاء محاكم الطوارئ العسكرية وتعديل قانون العقوبات. لكن مصادر المفوضية الأوروبية تقول ان تركيا لا يزال امامها شوط كبير لإصلاح الحقوق المدنية والتعديلات الديمقراطية لتصل الى المستوى الأوروبي الادنى.

وقد ارتفعت شعبية حزب العمل القومي التركي، حسب استطلاعات الرأي لدرجة حصوله على مقاعد عديدة من حزب اوردوغان في البرلمان لو اجريت انتخابات الآن، رغم فشله في الحصول على اية مقاعد في انتخابات 2002، ومؤيدوه يرفضون شروط أوروبا لتغيير نمط حياتهم. واخطر الشروط المطلوبة من اوروبا على استقرار تركيا هي تقليص نفوذ العسكر وهم، دستوريا، ضمان لعلمانية تركيا واستمرار الدولة الحديثة التي بناها كمال اتاتورك، واضعا الجيش في قمة هرم السلطة. وقد يتحرك العسكر ضد اوردوغان اذا ما شعروا بانتهاء نفوذهم، خاصة ان انقلاب الجنرال كنعان ايفريت في السبعينات لا تزال ذكراه حية.

وأمام اوردوغان خيار طريق كسب مزيد من التأييد الشعبي ضد ضغوط القوميين التي تطالب بالقضاء على المكاسب التي تحققت لأكراد تركيا. فتراجعه عن الإصلاحات الديمقراطية لن يزيد من رصيده الشعبي، بل يقوي نفوذ اليمين، وسيعرقل انضمام بلاده لأوروبا، بينما سيساعد التوسع في الديمقراطية والليبرالية على حل المشكلة الكردية بمنح الأكراد المزيد من الحقوق.

الأمر الداعي للتفاؤل ان المصادر المقربة من اوردوغان والدبلوماسيين الغربيين في انقرة تشير الى عزم رئيس الوزراء التركي على المضي في مزيد من الإصلاحات بصرف النظر عن مصير المحادثات مع اوروبا، فهي سبيله الوحيد لتجديد بقائه في الحكم بانتخابات جديدة.