أوربا قلعة تزداد تحصنا

TT

تجاوبت الحكومة الإسبانية فورا مع الاحتجاج الذي أطلقه الكاتب الكولومبي غابرييل غرثية ماركيث، الحائز جائزة نوبل للآداب سنة 1982، على إثر فرض التأشيرة على مواطنيه الراغبين في الدخول إلى التراب الإسباني.

ففي يوم 15 مارس الجاري، أعلن في مدريد عن إخضاع الكولومبيين إلى نظام التأشيرة، عملا بقرار في هذا الصدد اتخذ في حظيرة الاتحاد الأوربي لأسباب أمنية، تتعلق بترويج المخدرات، وجنايات أخرى.

وبمجرد إعلان ذلك القرار، نشر ماركيث وخمسة مثقفين كولومبيين آخرين منهم الرسام ذو الشهرة العالمية بوطيلو، احتجاجا في شكل رسالة موجهة إلى رئيس الحكومة الإسبانية خوصي مارية أثنار، جاء فيها أنهم لن يطأوا الأرض الإسبانية ما لم يرفع قرار التأشيرة.

إن هناك 170 دولة تفرض التأشيرة على الكولومبيين بسبب آفة ترويج المخدرات. وفي منتصف التسعينات كان الرئيس صامبر بنفسه قد حجبت عنه التأشيرة حينما هم بزيارة الولايات المتحدة، ولم يتمكن من حفظ ماء الوجه إلا بعد أن طلب التأشيرة للدخول إلى نيويورك لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، بوصفه رئيسا لكتلة دول عدم الانحياز. وكان محور تلك المماحكة هو أن الرئيس صامبر نسب إليه التورط شخصيا في علاقة مع بارونات المخدرات الذين ربما ساهموا في حملته الانتخابية.

وهذا التجاوب الإسباني مع احتجاج المثقفين الكولومبيين الخمسة الذين وقعوا الرسالة، يثير الانتباه فيه أن التعامل مع الاحتجاج تم بجدية وفورية، تؤكدان ارتفاع المرتبة التي عند المثقف، بما يذكر بقولة الجنرال ديغول، حينما قيل له إن جان بول سارتر وجد متلبسا بالضلوع في عمل شغب يعاقب عليه القانون: القانون لا يعتقل سارتر. وبرسالة ماركيث وصحبه يكون صوت المثقف مسموعا أكثر من خارجية بلده.

وجاء في رسالة ماركيث وصحبه: إننا نعتبر، عن حق أو بدونه، أن إسبانيا هي أرضنا الأم، نظرا لاعتقاد عميق عندنا بأننا لسنا غرباء عنها. وإذا لم يوحدنا الدم، فهناك خدمة دين نحو أبناء وأحفاد وعبيد تم إخضاعهم بلا عدل لإسبانيا. ونحن نستنكر أن تتيح العولمة تنقل البنوك وكبريات الشركات، مثل الريح، بينما تتم عرقلة تنقل البشر.

وقد كان لقرار التأشيرة المذكور صدى واسع في كولومبيا، حيث اعتبر الأمر إذلالا غير مقبول. وقدم أحد أعضاء البرلمان، مشروع قانون يهدف للمعاملة بالمثل، بفرض التأشيرة على الإسبانيين الراغبين في الدخول إلى كولومبيا. وكتب صحافي مرموق: لقد ساهمنا إلى جانب الإسبانيين في الحرب الأهلية، وها هم يقفلون الباب في وجهنا.

ولم تطق الحكومة الإسبانية تحمل هذا التوبيخ، من المثقفين، وعلى رأسهم ماركيث، فسارع وزير الخارجية إلى الإعلان عن الدخول في مباحثات مع الحكومة الكولومبية قصد التوصل إلى تسوية خاصة تضمن التكيف مع قرار الاتحاد الأوربي، وتتيح التصرف بمرونة تؤدي إلى صرف تأشيرة متعددة السنوات، كما تفعل الولايات المتحدة، ومنح تأشيرات مجاملة، للتجاوب مع الاحتجاج بكيفية تميز بين الكولومبيين السيئين والعاديين. وأوضح الجانب الإسباني أنه امتنع عن التصويت على القرار الأوربي، ولكن لا مناص من تطبيقه. ونشرت جريدة «لا راثون» المدريدية، التي يصدرها الصحافي المخضرم خوصي مارية أنصون، عضو الأكاديمية الإسبانية، مقالا طويلا لصحافي إسباني يحمل الجنسيتين الاسبانية والكولومبية، لمح فيه إلى أنه سيضع الحكومة الإسبانية أمام اختبار حيث سيقدم جوازه الكولومبي لشرطة المطار لدى عودته في أول فرصة من كولومبيا إلى مدريد، وصرح بأن شرايينه لو فتحت لانفجرت حبا لكولومبيا.

وينص قانون الأجانب في إسبانيا على أن لمواطني أميركا الجنوبية حق الأولوية في الإقامة بإسبانيا. وفي ذكرى اكتشاف القارة الأميركية منذ ست سنوات أعلن عن تخويل حق الأولوية في الإقامة لمواطني اللاتينيين، ومعهم اليهود السفرديون، الذين تم طرد أجدادهم من إسبانيا في عهد محاكم التفتيش.

ويحس اللاتينيون طواعية بانتمائهم إلى إسبانيا رغم حروب الاستقلال التي تجابهوا فيها مع «الوطن الأب» طيلة القرن التاسع عشر، وآخرها حرب كوبا في 1898، التي ساهمت فيها الولايات المتحدة للعمل على طرد إسبانيا من آخر مستعمرة لها في العالم الجديد.

وتابعت الحكومات الديمقراطية في إسبانيا الخطة التي أرساها فرانكو بالانفتاح على الأسرة الاميركية اللاتينية منذ الحرب العالمية الثانية. وتعتبر إسبانيا اليوم المستثمر الأوربي الأول في القارة الجنوبية. وبفضل الثقل الديموغرافي الذي تمثله أميركا اللاتينية، تحظى اللغة القشتالية بمركز دولي مرموق يجعلها تتفوق على الفرنسية مثلا من حيث عدد الناطقين الذين يناهز عددهم اليوم 400 مليون نسمة، وهي بذلك الرابعة في العالم بعد الصينية والإنكليزية والهندية.

والجدير بالذكر أن الهيسبانيكوس، أي الناطقين بالإسبانية في الولايات المتحدة (حوالي 29 مليون نسمة)، يمثلون ظاهرة خاصة ذات انعكاسات اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية، بحكم أن الحضور الكثيف لهؤلاء جعل اللغة الإسبانية لغة ثانية في ولاية فلوريدا، وذات حضور له وزن في تيكساس وكاليفورنيا ونيويورك، مما طرح للنقاش، في أقوى دولة في العالم، احتمال إعلان ثنائية اللغة في بعض الولايات، لاستعمال الإسبانية إلى جانب الإنكليزية. وفضلا عن هذا فإن برامج الويندوز، تصدر نسختها بالإسبانية، قبل كثير من اللغات الأخرى، نظرا لحجم المستهلكين في داخل الولايات المتحدة وخارجها.

ومقولة «خدمة الدين» التي وردت في رسالة ماركيث المشار إليها من قبل، تحتل في هذا السياق وزنها المادي والمعنوي معا. فبين أميركا الجنوبية وإسبانيا تراث مشترك، أفرز تبادل تبعية، هو نتيجة عوامل تاريخية وثقافية، قابلة للترقيم من الناحية الاقتصادية، وملموسة التأثير من الناحية السياسية. إذ فاز بجائزة نوبل للآداب خمسة من الإسبانيين وأربعة من اللاتينيين، كما أن اللغة الإسبانية أدخلت إلى الأمم المتحدة، كلغة عمل رسمية، قبل أن تلتحق إسبانيا نفسها بالمنتظم الدولي، بفضل وجود الدول الأميركية اللاتينية، لدى تأسيس المنظمة.

في البرازيل يبدون تعلقا بالبرتغال بلا عقدة، يماثل الرابطة الموجودة بين إسبانيا وبلدان أميركا اللاتينية. وإلى وقت قريب كان يحق للبرتغالي بمجرد نزوله من الباخرة أن يكتسب الجنسية البرازيلية إذا أراد. ومنذ بداية التسعينات توجس اللاتينيون التهديد الماثل في انغلاق أوربا على نفسها، كقلعة محصنة دون برابرة الجنوب ومنهم اللاتينيون، لدى انتقال مسلسل توحيد أوربا إلى سرعة أكبر. وذلك في الوقت الذي دفعت الأزمة الاقتصادية باللاتينيين إلى البحث عن فرص الشغل في العالم القديم. ففي الإيكواضور يقدر عدد الراغبين في الهجرة إلى إسبانيا بثلاثمائة ألف. ولا يمكن أن يقبل منهم إلا حوالي 25 ألفا. وبعد أن كانت إسبانيا حتي الثمانينات بلدا يصدر اليد العاملة، تحولت بفضل الديموقراطيا والازدهار الاقتصادي إلى بلد مستورد. إلا أن هناك منطقا آخر يطبق في دول الاتحاد الأوربي اليوم بشأن الهجرة إليها، بعد أن مارست أغلب دول الاتحاد الهجرة إلى أميركا اللاتينية طيلة ما يزيد على خمسمائة عام متوالية. عاب الصحافي الاسباني المزدوج الجنسية، الذي انتقد قرار التأشيرة في جريدة «لاراثون»، على الجانب الأوربي أنه ورط إسبانيا في هذا النكران حيال أعضاء أسرتها التاريخية والثقافية، وقال إن دول الاتحاد الأوربي يجمعها كثير من السوق وقليل من الاتحاد. لكن الواقع أن هناك كثيرا من السوق وكثيرا من الاتحاد أيضا، بأهداف أوربية وحسابات أوربية، هي ذات الأولوية. وترتيب العلاقات مع الأطراف الثالثة يأتي ضمن المنظور الجماعي الأوربي بأولوياته المرسومة.