سياسة واشنطن العراقية لا تغري الأكراد بالمراهنة عليها

TT

لا نأتي بجديد في موضوع الموقف الأميركي من العراق، عندما نقول بأن جوهر المأزق الذي تواجهه السياسة الأميركية في هذا الاتجاه، وكذلك العائق الذي يعترض جهودها بالتعاون مع بريطانيا لرص صفوف جبهة قوية ضد الرئيس العراقي صدام حسين من جديد، هو عدم تبلور نهاية مرئية في استراتيجية الدولتين في هذا الموضوع، وبالتالي عدم وضوح الرؤية عند بقية الأطراف والدول لتحديد نتائج تلك السياسة واستشراف جوانب الصورة المستقبلية للعراق والمنطقة.

ومن المسلّم به، أن السياسة الأميركية تجاه العراق، تجابه اليوم بحالة من الازدراء العلني في الشرق الأوسط والعالم، ومن فريق كبير من الدول يضم دولاً مؤثرة بينها، كالصين وفرنسا وروسيا، شريكات الولايات المتحدة في العضوية الدائمة بمجلس الأمن الدولي. وتأتي الإدارة الأميركية الجديدة لتعلن عن أنها ستتبنى سياسة جديدة وخططاً ذكية موجهة ضد بغداد. والطلب الأميركي هذا أشبه بمن يطلب من آخرين أن يقودوا مركباتهم في ظلام شديد الحلكة وفي طريق وعرة دون استعمال مصابيح الإضاءة. وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد نجحت بإقناع الدول المؤثرة في الموضوع العراقي طيلة الأعوام التسعة الماضية، بأهمية عدم عودة العراق إلى الحظيرة الدولية، طالما استمر برفض الامتثال للشروط الأساسية التي أوقف بموجبها التحالف الدولي إطلاق النار في حرب الخليج الثانية عام 1991، وأهمها شرط نزع أسلحته ذات الدمار الشامل، فتلك صفحة سابقة ومطوية لأن دوام اقتناع تلك الدول بهذا الرأي وتطبيقه عملياً أصبح مكلفاً جداً، وبخاصة في المجالات الاقتصادية، في الوقت الذي لا تصيب الولايات المتحدة وبريطانيا مثل تلك الخسائر.

الحرب العالمية الأولى وإذا ما تصورت الولايات المتحدة بأن سياسة الاحتواء والعزل، التي تطبقها على العراق منذ سنوات ستجبر الرئيس العراقي على الامتثال لكامل شروط (خاسر الحرب)، التي وقعها على الحدود العراقية ـ الكويتية قبل عشر سنوات، مع استبعاد المراهنة العراقية الناجحة على عامل الزمن التي أكسبته الكثير من الأصوات وتعامل العراق مع (الشروط المذكورة) كموضوع، فهي مخطئة، لأن تعاطي العراق مع تلك الشروط وبالذات مع شرط تدمير أسلحته الفتاكة يعكس الصورة الأفضل عن الالتزام العراقي في هذا الاتجاه.

وما أشبه الأسلوب العراقي في تعامله مع مفتشي الأسلحة اليوم بأسلوب ألمانيا في ذات المجال، إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، عندما قامت دول الحلفاء حينذاك بإملاء التزامات رقابة صارمة على التسلح الألماني وفرضت عليها شرط نزع أسلحتها بموجب اتفاقية فرساي الموقعة عام 1919.وتم إرسال مفتشي الأسلحة إلى ألمانيا للتحقق من امتثالها، وكان فيلق (الضباط الخاص) في الجيش الألماني المكلف بالتعامل مع المفتشين، والذي ومن خلال المراوغة والخداع والتكتم، التي كان يوجهها الجنرال (هانز فون شيكيت)، تمكن من إحباط جهود المفتشين. وكثيراً ما جادلت الحكومة الألمانية حينه متهمة المفتشين بأنهم متطفلون وجواسيس، كما حاجج الألمان في أمور كثيرة مبرزين معاناة المدنيين. وعندما أخذت ألمانيا بمقاومة وعرقلة عمل المفتشين علناً، بدأت الخلافات والانقسامات تظهر بين دول الحلفاء. ورغم امتثال ألمانيا بسرعة بعد ذلك نتيجة تهديد الحلفاء لها باحتلال منطقة (روهر)، إلا أنها عادت بوسيلة وأخرى إلى أن نجحت في تقسيم الحلفاء. فكتب العضو البريطاني في لجنة الرقابة الجنرال (جون مورغان) في أحد تقاريره: (ان فيلق الضباط الألماني الخاص أرهق لجنة الرقابة من خلال سياسة التهرب المستمر من مطالبنا إلى أن وصل الأمر إلى حد إهمال الوزراء في الحكومة البريطانية لكافة تقاريرنا معتقدين بأن ألمانيا أصبحت منزوعة السلاح، وإذا لم تكن كذلك فإنها لا يمكن أن تكون يوماً منزوعة السلاح). وبعد 7 أعوام من توقيع اتفاقية فرساي، تم قبول عضوية ألمانيا في عصبة الأمم ووافق الحلفاء على سحب لجنة الرقابة والمفتشين نهاية عام 1926، وكما أوصل هذا الطريق الألمان إلى تحقيق أهدافهم وغاياتهم، بات العراق أيضاً في مرحلة متقدمة من مشروع مماثل لشق صفوف جبهة الدول المتحالفة ضده ولإجبارهم على إعادته إلى الحظيرة الدولية وسحب مفتشي الأسلحة وإلغاء مهامهم.

بعد عشر سنوات من انتهاء حرب الخليج الثانية، لا يبدو أن السياسة الأميركية حققت الكثير من أهدافها، بل على العكس صمد الرئيس العراقي ولم يتزحزح عن كرسي الحكم قيد أنملة، ولم يضعف إلى الحد الذي أرادته الولايات المتحدة حسب ما تعلن، كما ولم يتغير أو يراجع حساباته، واستطاع أن يستثمر جملة من المواضيع لصالحه، ليدفع بأميركا إلى الإعلان عن أنها ستعيد النظر في العقوبات وإجبارها على مقاربة طروحات الرأي العام العالمي (إعلامياً)، والقائلة بعدم جدوى هذه العقوبات وتنعتها بالغبية، والتي وبدلاً من أن تضر بالنظام الحاكم في العراق، راحت تقضي على الشعب بالتدريج. الرئيس العراقي الذي استقوى في ظل العقوبات الأميركية واسترد عافيته، وذلك واضح في خطابه السياسي والإعلامي، لا تخافه الشعوب والدول المجاورة فحسب، بل صار يرعب الطيارين الأميركان والبريطانيين أيضاً.

سياسة لا ذكية وسواء اتبعت إدارة الجمهوريين في واشنطن سياسة (ذكية) جديدة في تعاملها مع العراق، أم استمرت على القديمة (اللاذكية)، فإنه سيكون أمامها ملفات أساسية يتعين مراجعتها بإلحاح والعمل فيها، أولها ملف مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة، ذلك الملف الذي أغلقه العراق بعدما طرد قبل نحو عامين جميع العاملين في هذا الموضوع وأنهى مهامهم، وثانيها ملف المعارضة العراقية التي أوقفت نشاطاتها وأغلقت مقراتها في (كُردستان)، وتوجهت إلى المنافي تحت ضغط النظام وخوفاً منه. وثالثها ملف الوضع الإنساني للشعب العراقي والذي يمكن وصفه اختصاراً بكلمة المأساوي والذي تتحمل الولايات المتحدة قبل أي طرف أوزاره. وبات يترتب اليوم على الإدارة الأميركية أن تفعل ما من شأنه أن يحسن من وضع الشعب العراقي لا نظامه الحاكم وبالتالي تحسين صورتها هي وإضفاء قسط من العدل والمعقولية على سياستها.

لقد كان للضبابية التي تغلف الاستراتيجية الأميركية إزاء العراق من جهة، واتباع واشنطن أسلوب المناشدات وسياسة (العصا والجزرة)، مع الكثير من الأطراف من جهة ثانية، بهدف عزل ومعاقبة العراق طيلة السنوات الثماني الماضية، كان لها أن أفرزت جبهة مستاءة ضد السياسات الأميركية في المسألة العراقية، حتى أن الشكل المستديم للعقوبات دفع بابا الفاتيكان الى أن يتخذ قراراً بزيارة العراق متعاطفاً في أغسطس (آب) من عام 1999، والتي حالت مناشدة فريق من كبار المسؤولين الأميركيين زاروا روما حينها دون تنفيذها.

ولا جدال في أن السيطرة الأميركية على الموضوع العراقي لم تعد كما كانت عليه قبل عشر سنوات وهي أول من يعرف ذلك، فما الذي ستفعله مع حلفاء غاضبين ومستائين من سياساتها، وكيف سيمكنها أن تعيد اللحمة لعلاقاتها معهم لتشكيل جبهة جديدة وفاعلة؟ ربما كان ذلك ببعض التنازلات للأطراف المؤثرة وبالكشف عن بعض أوراق سياستها العراقية وإضفاء شيء من الشفافية عليها لإقناع اللاعبين سواء المحليين أو الإقليميين أو الدوليين بالقبول بخطط اللعب الأميركية. ويبدو منطقيا تردد الأطراف والدول وتحفظها على معاونة واشنطن والسير على خططها في المسألة العراقية، والكل محق ابتداء بفرنسا الشريك الفعّال السابق في تحالف عام 1991، وصولاً إلى الأكراد الذين لا يفكون طلاسم هذه السياسة الغريبة ولا يفقهونها، وتعلموا ـ هم تحديداً ـ من دروس الأمس بألا يقامروا ويراهنوا على الحصان الأميركي بسرعة فقد سبق أن خذلهم من قبل أكثر من مرة.

* كاتب وصحافي من كردستان العراق