هل الأنثى مخزن قهر..؟

TT

بعض رسائل القراء العميقة و«المتعوب عليها» أفضل بكثير من مقالات وأعمدة الكتاب المحترفين، وكثيراً ما تصل الي رسائل من هذه النوعية الراقية التي يستعصي لكثافتها ودقتها اختصارها، وأغلبها باقلام النساء، ومنها هذه الرسالة:

الدكتور محيي الدين اللاذقاني تحية تقدير وبعد:

قد تكون في مقالك يوم الاربعاء 2001/1/24 «فضاء الثقافة الرحمية» قد أجبت عن جزء من أسباب تميز النص الأنثوي وعمقه وخصوبته، فالانكفاء إلى الداخل (وأنا أسميه الانسراب نحو الداخل) وإجادة الاصغاء إلى الأعماق ووشوشات الذات والتعود على التعايش مع طراوة الروح والجسد لا بد أنها أسباب كما قلت لتمييز النص الأنثوي، وخصوصاً الانسراب نحو الداخل.

فالانثى غالباً ما تضطر لأن ترد انفعالاتها إلى داخلها لأسباب كثيرة، فهناك من لا يسمح لها بالانفعال: وهناك من يعيب عليها تلك الأحاسيس، وهناك أيضاً من يعاقبها على أحاسيسها إن ترجمتها بكلمات تنفرد بها أو بأفعال.

لذلك فهي تخزن بداخلها كماً هائلاً من الانفعالات والأحاسيس والآلام والآهات المنسوبة جميعها وعبر الأيام نحو أعماقها.

فعندما تجلس لتكتب ينساب تلقائياً كل ما بداخلها ليترجم إلى كتابات، أروع ما فيها صدق التعبير والاحساس. أما الرجل فيحاول غالباً أن يعكس انفعالات واحاسيس الناس التي لا يمكن ان يُعبر عنها بصدق كما لو عبرَّ عما بنفسه، وإن عبرَّ عما بنفسه فخزينته من الأحاسيس والآلام خاوية أو متواضعة بأحسن الأحوال قياساً لخزينة المرأة.

وهذا لا يعني أن الرجل لا يحس ولكني قصدت أنه لا يخزن أحاسيسه.

وعدا موضوع الكم، فهناك الكيف فالمرأة بطبعها مرهفة الحس اكثر من الرجل، وما تراه الأنثى سبباً للألم وللآهات ودفعاً للكتابة والتعبير، قد ينظر إليه الرجل على أنه أمر طبيعي لا يستدعي الوقوف عنده. وهذا توضيح مني لما ذكرته عن حالة الانسراب نحو الداخل.

أما ما لم تذكره فهو حالة القهر التي غالباً ما تعيشها المرأة، والاحساس بالقهر أو الظلم أو الضغط النفسي يدفع صاحبه دائماً لطريق التنفيس وإلا (طق قهراً)، وحالما يجد باباً للتنفيس يكون على أقوى وجه، فإن استطاع المظلوم ان يدعو على ظالمه دعى بأمر الألفاظ، وإن وجد باباً مفتوحاً للانتقام انتقم على أبشع وجه، وإن وجدت موهبة التعبير والكتابة، ترجم هذا القهر الاجتماعي بكتابات غاية في التعبير.

وانت كما تعلم، ففي عالمنا العربي ما اكثر القهر الذي يقع على المرأة، ان لم يكن من أبيها فمن أخيها، وإن نجت من قهر أهلها بأعجوبة، ذهبت إلى حضن القهر الزوجي بإرادتها بفستانها الأبيض، الذي قد يكون آخر أبيض في حياتها، وان اقترنت بزوج متحضر ومحترم لكينونتها الأنثوية (وأشك) فلن تنجو من قهر المجتمع.

والمآسي غالباً ما تفجر المواهب وتبرز العباقرة. أما بالنسبة للرجل فقلما يقع عليه قهر، بمعنى القهر الحقيقي ثم إنه دائم التنفيس أمام أي مشكلة تواجهه، أو أي احساس بالانزعاج، فهو يفرغ انفعالاته آنيا، إما بالشتم وإما بالضرب وإما ما شابه من اساليب العنجهية الذكرية.

وبالتالي فلا مخزون داخله من الأحاسيس والانفعالات ولا احساس بالقهر يكاد يمزقه إرباً (اللهم لا حسد).

وقد سميتها ثقافة رحمية ونسيت أهم أسباب تميز الكتابات الأنثوية، وهي أنها تستطيع أن تكون أما، وهذا لا يستطيعه الرجل مهما بلغ من الإبداع والموهبة فالامومة عطاء متدفق قد يصل بالأم لأن تعطي عصارة روحها.

أما الأب فمهما علت به أحاسيس الأبوة فهو يظل بطبعه أنانيا ولا يعطي أكثر مما يأخذ.

قد يعطي كل ما في جيبه لفلذات كبده، لكنه يبقى في دائرة الماديات.

اما الأم فأولادها قطعة منها، وعندما ترضعهم، ترضعهم عصارة جسدها وروحها.

وكذلك هي كتابات الأنثى، قطعة منها «لحم ودم» وبهذا أتمنى أن أكون قد أجبت عما سألت في نهاية مقالك وأستميحك عذراً على الإطالة.. فهكذا نحن النساء إذا بدأنا الحديث يصعب علينا السكوت.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

القارئة أ. م من جدة أوشكت ان أقول «قطعت جهينة قول كل خطيب» لولا التعميم في الجملة الأخيرة فكتابات النساء يا اختاه ليست كلها ولا ثلاثة ارباعها قطعة من (لحم ودم) بل فيها، وعذراً عن الصراحة الضرورية التي تليق بتفسيراتك الجميلة كتابات كالخلايا الميتة، وكتابات كالقشرة التي لا يزيلها أي غاسول مضاد، وكتابات كالشعر الضار حول الأنف وفي قلب الاذنين.

مع ذلك لا أملك إلا أن أوافق على تحليلك الذكي الخاص بتخزين القهر فكبار الكتاب من الذكور داخلهم أيضاً قهر وكبت عظيم. وغالباً ما يكون ذلك القهر لأسباب محيطة لا علاقة لها بهم شخصياً لكن الإنسان الحساس والمرهف لا يستطيع ان يستمتع بالعيش وسط غابة من الظلم السياسي والاجتماعي، ومع ذلك فإن قهر هؤلاء لا يصل إلى تحويلهم إلى مخازن قهر متحركة كما يحصل مع النساء كما تعتقدين.

إن الانسراب إلى الداخل حين يتحول إلى اسلوب حياة ينتج الكثير من العذوبة تماماً كبعض الينابيع الحلوة التي يمكن العثور عليها في قلب محيطات الاجاج بكل كدرها وملوحتها. اما ان تكاثر الانسراب إلى الداخل ولم يتحول إلى إبداع فعندها تظهر علامات الخطر وتتحول حياة من لا يستطعن التنفيس كتابة إلى قطعة جحيم حقيقية ستحترق وتحرق من حولها ولو بعد حين.