مسيحيو لبنان: أزمة سيادة... أم أزمة قيادة؟

TT

طبيعي ان يستقبل مسيحيو لبنان، وبالذات الموارنة، البطريرك نصر الله صفير بالحفاوة التي استُقبل بها. ومفهوم جداً ان يأخذ الاستقبال نكهة سياسية..بالنظر الى مضمون كلام البطريرك في عدد من محطات زيارته الاميركية الكندية. كذلك من غير المعقول ألا تعتبر نسبة كبيرة من الموارنة ان الاستقبال الحاشد ـ الذي اختلفت التقديرات حول حجمه ـ تأكيد للدّور القيادي المركزي الذي استعاده صفير للبطريركية كمرجعية سياسية في غياب «القادة» الموارنة الآخرين.

كل ما سبق حقائق لا لبس فيها ولا خلاف معها.

اما ما يمكن ان ينطوي على لبس، وما قد تشتمّ منه رائحة الخلاف، فتحميل ما حدث ما لا يحتمله عبر قراءات في غير محلها. وهي قراءات اول من يعترض عليها العقلاء من الساسة والمحللين المسيحيين، الذين يعترفون في قرارة نفوسهم ان ما ينقص المسيحيين اللبنانيين اليوم «القيادة التاريخية» القادرة على السير بهم في المسالك الصعبة لمرحلة ما بعد الحرب. وهذه المهمة عسيرة جداً لجملة من الظّروف والمعطيات.

فخلال القرن التاسع عشر، في ظل ما عرف بـ«نظام المتصرفية» (الحكم الذاتي لجبل لبنان، او «لبنان الصغير» بتفاهم عثماني غربي) كانت المعادلة بسيطة جداً. فبعد نجاح الكنيسة المارونية في القضاء على نفوذ الاقطاع، بفضل استثمارها «العاميّات» (الثورات الفلاحية) داخلياً والدعم المؤسساتي الاجنبي خارجياً، صارت اللعبة السياسية إبّان «نظام المتصرفية» ـ سواء من حيث المنظور او الممارسة ـ لعبة «تجاذب» بين الاغلبية المسيحية المتسلحة بالقوى الغربية وبقايا نفوذ الدولة العثمانية على المتصرّف، الذي كان موظفاً حكومياً عثمانياً.. ولكنه مسيحي. والحقيقة انه لم يكن لغير المسيحيين، وبخاصة الدروز، إلا استغلال هذه اللعبة لصالحهم عند تشدّد المسيحيين في مطالبهم الى حد يضايق المتصرف ويحرجه. بكلام آخر، كانت الكرة يومذاك في الملعب المسيحي. وكل شيء تقريباً يعتمد على «سقف المطالب» المسيحية. ويذكر تاريخ لبنان في القرن التاسع عشر ان القيادة المارونية اصطدمت مرتين مع المتصرفين. الاولى بين يوسف كرم وداود باشا اول المتصرفين، والثانية بين المطران غسطين البستاني مع المتصرف الثالث رستم باشا. وفي الحالتين نجم الصدام عن رغبة كل من المتصرف «القوي» والزعيم الماروني «القوي» بممارسة السلطة وفق مرئياته اولاً لميزان القوى، وثانياً لحدود سيادة الكيان الذي يحكمه ذلك النظام، وثالثاً لعلاقة الكيان بالقوى الاقليمية والدولية النافذة. بعد ذلك، تغيّرت ظروف اللعبة السياسية ـ ايضاً من حيث المنظور ومن حيث الممارسة ـ مع توسيع حدود «لبنان الصغير» عام 1920. إذ تلاشت الاغلبية المسيحية الكبيرة نتيجة ضم مناطق واسعة ذات اغلبية مسلمة كانت في الماضي تابعة لولاية دمشق وولاية بيروت. وهكذا وجد المسيحيون انفسهم مضطرين لتغيير اللعبة مراعاة لمقتضى الحال، مع ان قادتهم كانوا وراء المطالبة بـ«تكبير» «لبنان الصغير» في مؤتمر باريس عام 1919. وثبّت هذا التغيّر لاحقاً مع تحقيق الاستقلال عام 1943 تحت خيمة ما سميّ «الميثاق الوطني». وهو عرف غير مكتوب في الدستور يشمل ضمن ما يشمل توزيع الرئاسات والمناصب والصلاحيات تبعاً للحجم السكاني التقديري لكل طائفة.

ثم من جديد، خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، افرز تبدّل المعطيات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية في «لبنان الكبير» حالة تقتضي تغييراً في اللعبة السياسية.

وكان لا بد ايضاً من ان تؤخذ في الحساب ابعاد اخرى متصلة بالوضعين الاقليمي والدولي، ابتداء بـ«كامب ديفيد» مروراً بالثورة الايرانية وانتهاء بانهيار الاتحاد السوفياتي.

كان على اللبنانيين العقلاء، بعد حرب مدمرة استمرت اكثر من 15 سنة، قلب الصفحة وايجاد صيغة تعايش مع المتغيرات من دون حسابات خاطئة. وفي صميم صيغة التعايش المرجوة، ان يرسموا صراحة الحدود بين الاستراتيجية والتكتيك، ويقرّروا سقف المطالب، ويتفاهموا على شروط التعايش داخلياً وخارجياً. ولكن ما حصل حتى الآن، مع الأسف، لا يشجع على الاعتقاد ان صيغة التعايش قد اعتمدت نهائياً.

ففي المعسكر المسيحي ثمة من يتهم سورية بـ«نسف» الثقة بين الطوائف اللبنانية واستثمار خلافاتها. وحتماً في المقابل هناك من يرفض هذا الكلام ويعتبر ان على اللبنانيين، الذين هم اصحاب المصلحة في الوفاق، تحقيق هذا التوافق حتى إذا صدق زعم رغبة بعض القوى الاقليمية في إبقاء الخلاف مستعراً. وهناك في المعسكر المسيحي من يرى ان دمشق تسعى لتغليب فريق على آخر. وايضاً ترفض جهات عدة مسيحية ومسلمة هذا الطرح معتبرة العلاقة الخاصة بين دمشق ومقام رئاسة الجمهورية ـ الماروني دستورياً ـ دليلاً دامغاً يدحض هذه التهمة. وثمة قوى في المعسكر المسيحي ترى علاقتها بدمشق اصلاً علاقة تناقض وتصادم، في حين ترى اغلبية اللبنانيين انه مهما بلغت الشكاوى من وجود شوائب، لا يجوز من منطلق المصلحة اللبنانية اولاً، ركوب مركب التحدي والمواجهة.

الواقع انه توجد ظلامات سياسية ومعيشية عند طيف واسع من اللبنانيين، غير ان خيار تحميل «الاخرين» دائماً مسؤولية الخلل لا يفيد. بل اثبتت سنوات الحرب الطويلة عقم ذلك الخيار. اما المطلوب حقاً فجاهزية اللبنانيين، كل اللبنانيين، على خلق مناخ ثقة في الجدل السياسي...بصراحة ومسؤولية. وإذا كانت بعض جهات الحكم في لبنان مخطئة في تعاملها السلبي مع ملفّي الجنرال ميشال عون والدكتور سمير جعجع.. كما هي على خطأ ايضاً في عدد من ممارساتها الداخلية، فالحل لا يمكن ان يأتي من رد فعل فئوي. ولئن كان الفراغ القيادي في الساحة السياسية المسيحية قد جعل البطريرك صفير ملاذاً في موضوع «القيادة». فالبطريرك الجزيل الاحترام يستفيد في تثبيت مرجعيته السياسية عند المسيحيين استناداً لمكانته الدينية، لكنه لا يستطيع ذلك عند المسلمين. بل على العكس، يستطيع البطريرك لعب دوره الوطني فقط عندما تصبح طروحاته مقبولة على الجانب الاسلامي ـ كحال المطران مكاريوس في قبرص الواحدة الموحدة ـ. والغياب الاسلامي الملحوظ في مطار بيروت كان موقفاً يجب التعمق في قراءته. كذلك على الشارع المسيحي الاصغاء للاصوات العاقلة فيه قبل القفز الى الاستنتاجات الخاطئة حول «العُرف» و«الهيمنة» و«السيادة» كما حصل في بعض التغطيات الصحافية المتشنجة لانتخابات نقابة الاطباء في الاسبوع الماضي، وهي انتخابات اسفرت عن فوز طبيب مسلم بمنصب النقيب لأول مرة منذ عام 1949! لبنان لا يمكن ان يعيش بلا جناحه المسيحي. فهو بذا يفقد ميزة اساسية من شخصيته وثقافته.. ولا اقول ـ عمداً ـ من مبررات وجوده. وعلى المسيحي ان يثري هذه التجربة بإدراكه دوره الطليعي التفاعلي الجريء، ونبذه رد الفعل الالتجائي النزق من زاوية الخوف.