قمة الكلمة

TT

امضى وزراء الخارجية العرب نحو ثلاثة ايام في البحث عن جملة طيبة ترضي العراق والكويت ولا تغضب احداً. وزراء لهم في الديبلوماسية ما للأمير سعود الفيصل والشيخ صباح الاحمد والاستاذين فاروق الشرع وعمرو موسى، نحو ثلاثة ارباع القرن من الديبلوماسية العربية تبحث عن كلمة، عن حرف، عن فاصلة، من اجل انهاء مأزق سمي «الحالة العراقية ـ الكويتية».

لكن لماذا هذا العنوان؟ انه ضرب آخر من فنون الديبلوماسية ومهارتها. فاذا سمي الخلاف العراقي ـ الكويتي خلافاً ضعفت امكانية الاتفاق. واذا سمي نزاعاً كبر الشق. واذا سمي «القضية» فماذا تسمى القضية الفلسطينية او القضية العربية. واذا سمي المسألة اوحينا بأنه بلا حل. لذلك وصل الى القمة تحت عنوان «الحالة»: كلمة تنبئ ولا تصف، تعرض ولا تحدد، وتفي من دون ان تثير.

تلك هي اهمية الكلمة. تلك هي عظمتها. ذلك هو مفعولها واثرها وتأثيرها. لم اصدق نفسي وانا اسمع العقيد القذافي يمتدح القمة والقيمين عليها ونتائجها. وانتظرت ان يعود فيقول شيئاً آخر عن اي شيء آخر، لكنه ختم بما بدأ. بهدوء وابتسام. هل نفهم من ذلك ان القمم يجب ان تكون تعميمات وتسميات وصيغات لا تغضب احداً؟ لا. نفهم من ذلك ان الخطاب السياسي هو الجزء الاهم من اي سياسة. ونفهم من ذلك ان اي كلام عن الاخوة والتعاون والوحدة والمصير هو مجرد كلام اذا كان الخطاب السياسي نفسه معادياً وسيئاً ومتغطرساً ومستكبراً ومستضعفاً. المشكلة الكبرى في الخلاف الكويتي ـ العراقي ليست الحدود ولا الارض ولا الجزر ولا بئر النفط. المشكلة منذ 1961 الى اليوم كانت الخطاب السياسي ولغة الاستضعاف ولهجة الاستعلاء. لغة الكبير والصغير. اللغة التي افقدت مصر الناصرية حصاد جمال عبد الناصر واللغة التي فرغت الاتحاد السوفياتي من كل منجزاته العلمية لأنه اصر على خطاب 1917 وهو في طريق العودة من الفضاء. لقد نسي العالم ان احد اهم منجزات العصر الفضائي كانت سفينة «مير» وانها اهم من «والت ديزني»، لأن «مير» ولدت في عصر اللهجات الفظة وماتت في عصر اللهجات البسيطة الجميلة. كان السوفيات يرسلون انجازاً علمياً هائلاً الى الفضاء لكن لغتهم صورته انه مجرد عربة بنيت نكاية في الاميركيين وانها عندما تعود سوف تحمل الرأسمالية الى مزبلة التاريخ وانها حيت من الفضاء الاعلى مفوض الحزب الاعلى في فلاديفوستوك. وكانت هذه الانجازات الكبرى تقلع وتعود في السر كأنها مخبر عند بيريا او محقق عند ستالين. وبدل ان نعرف من هم العلماء الذين حققوا هذا الخيال كان الرواد يعلنون «المجد لثورة اكتوبر والرفيق ليونيد».

تقول العامة «كلمة بتحنن كلمة بتجنن». والفارق هو فقط نقطة الجيم. ليس هناك ما هو ارخص من الكلام السيئ ولا ما هو اسهل. الكلام المفيد هو الكلام الصعب. الكلمة التي ترضي هي الكلمة التي تسعى اليها الناس والدول والامم بكل قواها. كان من السهل تخريب القمة قبل عقدها. وكان من السهل الاستعانة بأي قاموس عربي قديم. لكن البحث الشاق عن صيغة توافق جعل اول قمة عربية نظامية قمة الكلمة. على الاقل داخل القاعة.