تحديث النظام العربي ضرورة وليس ترفا

TT

مؤتمر القمة العربية الذي انهى اجتماعاته اول امس اصدر القرارات المتوقعة، ومنها شحذ المقاطعة لاسرائيل ووقف التطبيع، بالاضافة الى دعم الانتفاضة ماليا. ولم يكن احد يطلب او يتوقع شيئا اكثر من ذلك بسبب ضعف الموقف العربي عامة وعجزه عن مواجهة التحديات التي تحيط به من كل جانب، فضلا عن قلق كثير من الانظمة العربية والتهديدات التي تلاحقها لافتقادها الى الشرعية من ناحية، ولأنها تنتمي في اغلبها الى استقطابات مرحلة الحرب الباردة، من ناحية اخرى. لقد طال امد تأخير عملية التحديث واغلب الانظمة لا تفعل في الحقيقة شيئا الا المناورة من اجل التهرب من عملية التحديث. والنتيجة هي عجز النظام العربي عن تطوير نفسه بحيث يصبح قادرا على التعامل مع التحديات التي تواجهه. وقد يكون منطقيا تأجيل التحديث، او عدم نضوج المجتمعات العربية للتغيير من تلقاء ذاتها، ولكن الواقع يقول بغير ذلك. فخلال العقود الاربعة او الثلاثة الماضية اخذت المجتمعات تتطور من حيث التركيبة السكانية ونسب التعليم ونوعياته بحيث نشأت طبقة متوسطة ـ في اغلب هذه المجتمعات ـ ذات طموحات جديدة، وربما قادرة على الاسهام في عملية التحديث. حقا ان نظام التعليم وبرامجه ما زال متخلفا وفي حاجة الى ثورة هو ذاته، ولكنه قياسا الى ما قبل خمسين عاما احدث تغييرا جوهريا في الكثير من المجتمعات العربية. ولأن المجتمعات العربية لم تستجب لعوامل التغيير الناتجة عن التغيير في التركيب السكاني، بدأت بوادر للتوتر من بينها نشوء النزعات الارهابية والتنظيمات السرية المتطرفة، وكان رد الفعل الطبيعي من جانب الانظمة هو تشديد قبضة الحكم وتركيز الجهد على حماية امن النظام ولو على حساب كل النشاطات الاخرى، بما في ذلك عملية التنمية ذاتها. وكان هذا ابتعادا ـ بطبيعة الحال ـ عن عملية التحديث بشكل كامل. والتحديث ليس ترفا، انما هو التنظيم الاجتماعي الذي يهيئ المجتمع للتطور والتقدم ويستخرج كل القوى الكامنة في المجتمع، ويملك الآليات التي تتمكن من ضبط الحركة الاجتماعية وتنقيتها من الاخطاء او الفساد. ومن اهم الامثلة في هذه الناحية ان العرب يواجهون التحدي الاسرائيلي بنظم ضعيفة مهزوزة الثقة في شرعيتها او في امنها، مضطرة ان تعيش وتفكر يوما بيوم، وأن تقوم فقط بردود افعال، ومفتقرة الى سياسة استراتيجية تتعامل بها مع تحديات بالغة الخطورة استطاعت ان تهمش العالم العربي والاسلامي وان تجعله في صورة الانسان القبيح وبالتالي امكن تشويه قضايا العالم العربي العادلة واستمالة الرأي العام العالمي الى صفوف الأعداء. حقا ان التحديث ليس موكولا الى الارادة السياسية للقيادات العربية الحاكمة وحدها، ولكن هذه الارادة ذات فاعلية كبرى بسبب مواقعها السلطوية المتراكمة وانفرادها شبه المطلق في ادارة الامور، الا ان هذه الارادة تحقق ذاتها بصورة اقوى من خلال انتشار ثقافة عامة متواترة تكاد في مضمونها ترفض التحديث. وبالتالي فان مبادرة هذه القيادات بعمل تحديثي ذي شأن يعتبر ـ في الحقيقة ـ عملا مناهضا لها بصورة او بأخرى مما يجعل تحقق ارادة التغيير احتمالا بعيدا الى حد ما. ومع ذلك فان التغيير من اعلى ما زال احتمالا واردا، على الاقل كادراك واع للظروف التي يمر بها هذا المجتمع العربي او ذاك. وبالفعل هناك محاولات للإصلاح في اكثر من مجتمع عربي، فالاتجاه الى انشاء المجالس النيابية حتى لو كانت استشارية وبالتعيين خطوة الى الامام. وكذلك الامر بالنسبة للمجالس النيابية المنتخبة والتي يتم التلاعب في نتائجها. كل هذا ـ وان كان محاولة للالتفاف حول الاصلاح السياسي ـ الا انه مؤشر على ادراك بعض القيادات السياسية لضرورة التغيير. بل ان انعقاد القمة العربية الحالي في عمان كبداية لقمة دورية سنوية تجمع القيادات العربية هو نفسه مؤشر على ادراك ضرورة التغيير. والجانب الآخر لعملية التحديث ـ وهو الجمهور العربي ذاته ـ يتعلق بالثقافة المنتشرة والتي لم تكد تتحرك نحو شيء من الحداثة منذ القرن التاسع عشر حتى اصيبت بنكسات عديدة في الكثير من المواقع التي كانت متقدمة. والمتتبع لهذه النكسات يدرك ان بعض القيادات العربية كانت مسؤولة عنها بشكل مباشر، وكانت تشجع، بل تنشئ احيانا، التيارات الفكرية المعادية للتحديث لاسباب سياسية محضة لا علاقة لها بمضمون عملية التحديث من الناحية الموضوعية. فالتحديث ليس موكولا الى ارادة سياسية للقيادات العربية فقط، بل الى تحديث في الثقافة ذاتها، الامر الذي يحتاج الى وقت وجهاد طويل. ومع ذلك فان الساحة الثقافية في العالم العربي بل والاسلامي لم تخل من التيارات الفكرية الحداثية، وهي الفكرة التي تقوم على تحكيم العقل واستخدام مناهج البحث العلمية الحديثة في معالجة المشكلات، وهي كلها امور لا تتناقض مع العقيدة الدينية والايمان بدليل انها كانت اسلوب التفكير في العالم الاسلامي حتى القرن الرابع الهجري في رأي الكثير من الباحثين. ولعل الجزء الأكبر من النصف الثاني من القرن العشرين كان حافلا بأفكار تيارات التحديث، ولم تخفت اصواتها الا بعد تدخل السلطات السياسية التي كانت تتخوف من عمليات التحديث اصلا بوهم انها ضد سلطاتها وتهدف الى تقويضها بشكل مباشر. وعملية تقويض فكر الحداثة لم تحدث من فراغ او بطريقة مفتعلة. فما اكثر التحديات الاجنبية العنصرية، والمتعصبة احيانا، التي كان من نتائجها ان قطاعات شعبية واسعة راحت تربط فكرة التحديث بهذا العالم المعادي والكاره وبالتالي صارت ترفضها من أساسها. وهذا الموقف مازال قائما الى اليوم بصورة او بأخرى ويحتاج الى قدرة هائلة على التحكم في العواطف لسلخ التحديث عن القواعد المعادية التي جاء منها، وهو امر بالغ الصعوبة بالنسبة للقطاعات الشعبية الواسعة في غالبية العالم العربي بل والاسلامي. وعلى الرغم من كل ذلك فان القضية الاساسية التي تواجهها القيادات العربية هي تهيئة مجتمعاتها للتحديث وللاصلاح السياسي بأوسع معانيه، فهي الطريق الوحيدة لمواجهة صحيحة للتحديات التي لا تأتي فقط من الجانب الاسرائيلي بل من غالبية المجتمعات الغربية التي لديها الكثير من الاسباب، وربما الموروثات الخاطئة فضلا عن المصالح الخاصة، للوقوف ضد النهوض العربي والاسلامي ومناهضة حقوقه وعرقلة تقدمه. ولعله لهذا السبب فان المتوقع من مؤسسة القمة العربية هو ايلاء قضية تحديث المجتمعات العربية الاهمية الاولى، وفي مقدمة ذلك الاصلاح السياسي الذي تأخر كثيرا والذي بدونه يصعب تحقيق اي تقدم. من الطبيعي ان تتناول قمة عمان العربية القضايا الساخنة. وأن تتقدم القضية الفلسطينية كل موضوعات الاجندة. وعلى الرغم من الاعتراضات التي يمكن ان ترد من هذا التيار او ذاك فان قرارات القمة متوافقة تماما مع القدرات المحدودة التي تملكها الدول العربية. ومن الصعب ان تستطيع الدول العربية تجاوز ما هو اكثر من تنشيط المقاطعة التي اهملت طوال العشر سنين الماضية بأمل التوصل الى سلام شامل. وكذلك الأمر بالنسبة الى وقف التطبيع. واخيرا التطلع الى منظمة الامم المتحدة لارسال قوة دولية توقف العدوانات الاسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وهو رجاء لا امل فيه في ظل اعتراض الولايات المتحدة على قرار متواضع بارسال لجنة للتحقيق ولحماية الفلسطينيين في نفس اليوم الذي اصدر فيه مؤتمر القمة قراراته. لقد انشغلت القمة بموضوع المصالحة بين الكويت والعراق ولم تستطع التوصل الى موافقة العراق. وهو امر من الصعب تحققه من دون ان يكون للارادات الشعبية دور فعال فى القرارات السياسية، ففي غيبة تمثيل صحيح للشعب العربي وغيبة صحافة حرة لا يمكن التوصل الى قرارات عقلانية وحلول موضوعية، وسوف تظل المشكلة قائمة الى ان يتم اصلاح سياسي مبني على فكر الحداثة العقلاني. لقد كان التطرق الى الموضوعات ذات الصلة بالاصلاح هامشيا، وهو امر طبيعي على اية حال بسبب اشتعال الانتفاضة الفلسطينية، ومنها فكرة السوق العربية المشتركة وهي مطلب شعبي ذو صلة وثيقة بعملية الاصلاح، دعك من حقوق الانسان العربي التي كانت هي الاخرى موضوعة على اجندة القمة العربية، وتكوّن الركيزة الاساسية لأي اصلاح سياسي. ان مؤسسة القمة العربية الجديدة سوف يكون عليها ان تبحث في امور تحديث المجتمعات العربية باعتبارها الأساس الاول للقوة، وهي اهم من التسليح العسكري وقد كان العالم المصري الاميركي احمد زويل صادقا عندما قال ان انشاء قاعدة للبحث العلمي الصحيح في مصر اقوى من اي سلاح عسكري لمقاومة اسرائيل. والعجيب، بهذه المناسبة، ان مشروع احمد زويل بانشاء مركز ابحاث علمي وعالمي في مصر ما زال متعثرا لأن بعض السلطات في مصر تريد ان تهيمن على المشروع بمنطق الفكر السائد والمسؤول عن كثير من ظواهر التخلف والتي تقوم على المركزية السلطوية ورفض المؤسسات المدنية بمختلف اشكالها حتى لو كانت من اجل البحث العلمي. ان مؤسسة القمة العربية بعد تحويلها الى دورية تتمتع بالثبات تستطيع ان تفعل الكثير بعيدا عن بيروقراطية الاجهزة القديمة التي اصابها الشيء الكثير من التحجر والجمود.