العراق والعقوبات: الوضع الراهن أهون الشرور

TT

رغم انها كانت مخصصة في الأساس لدعم الانتفاضة الفلسطينية، فان القمة العربية الأخيرة في عمان دُفعت لمناقشة العقوبات المفروضة على العراق بعد غزوه للكويت عام 1990. العراق لا يريد ان تنتهي العقوبات نتيجة التوصل إلى اتفاق من خلال المفاوضات مع منظمة الأمم المتحدة، فالقيادة العراقية تبحث عن «نصر» دبلوماسي يجسده انهيار نظام العقوبات من دون تقديم أي تنازلات من بغداد. طبقا للملاحظة التي أبداها ميتيرنيش قبل حوالي قرن تقريبا، فانه «لا يمكن المغالاة في قيمة الوضع الراهن»، ذلك ان أي وضع راهن محدد يقوم على أساس توازن قوى نشأت من واقع أوضاع محددة على مدى فترة محددة من الزمن. يوفر ذلك قدرا من الأمن والاستقرار الذي بدونه يمكن ان تقع أي منطقة، وبالتأكيد العالم بكامله، تحت حكم الغاب.

ترى ما هي حقائق الوضع الراهن في المنطقة؟ أولا، أصبح العراق لأول مرة منذ منتصف عقد الستينات عاجزاً عن شن نزاعات مسلحة، سواء كان ذلك داخل أو خارج حدوده. لقد خاضت القوات العراقية حربا ضد الأكراد بدعم من إيران والولايات المتحدة وإسرائيل خلال الفترة من عام 1968 حتى عام 1975. كما دخل العراق خلال الفترة من 1973 حتى 1975 في حرب كاملة ضد إيران، رغم انها كانت بعيدة عن الاهتمام الاعلامي. وشهدت الفترة من 1975 إلى 1980 مناوشات بين القوات العراقية من جهة والقوات التركية والسورية من جهة أخرى. وفي عام 1977 كانت هناك مخاوف من احتمال دخول العراق وسورية في نزاع كامل. شهدت حقبة الثمانينات الحرب العراقية ـ الإيرانية، كما شهدت نهاية الثمانينات شن بغداد لحملة عسكرية جديدة للقضاء على التمرد الكردي من خلال استخدام الأسلحة الكيماوية. اما عقد التسعينات، فقد بدأ بالغزو العراقي للكويت.. وبقية القصة معروفة! هناك من يصر على ان العراق لم يعد في وضع يمكنه من الدخول في نزاع جديد في المنطقة، غير ان هذا هو بالتحديد ما قيل عام 1988 عقب اتفاق وقف إطلاق النار بين العراق وإيران. تكمن الحقيقة في ان بنية النظام العراقي التي أنشأها صدام حسين تجعل الحرب أمرا حتميا، فمشروع «بابل الجديدة» للرئيس صدام حسين يعني ضمنا إنشاء آلة عسكرية عراقية ضخمة. قبل الانقلاب البعثي في يوليو (تموز) عام 1968 كان العراق يخصص متوسطا يبلغ 8.8 بالمائة من إجمالي ناتجه المحلي للدفاع. وبنهاية عام 1971 وصل هذا الرقم إلى 20 بالمائة ثم ارتفع إلى 33 بالمائة عام 1990 مما دفع العراق إلى حافة الإفلاس. وللمحافظة على هذا المستوى من الإنفاق يحتاج العراق باستمرار إلى مصادر دخل جديدة، توفرت له أواخر حقبة السبعينات ومطلع الثمانينات من ارتفاع أسعار النفط. وببداية حقبة التسعينات لم يعد من الممكن توفير مصادر دخل جديدة للإنفاق العسكري إلا بغزو الكويت.

لم ينجح النظام الذي أنشأه صدام حسين في تطوير آليات لحل النزاعات سلميا، إذ ان العراق ظل يلجأ إلى استخدام القوة كلما واجهته مشكلة. فعلى صعيد السياسة الداخلية استخدم العراق القوة لسحق معارضيه، وحتى الحزب الحاكم لم يكن بمعزل عن حملات التطهير العنيفة التي استخدمت فيها القوة. استخدمت القوة كذلك في إفراغ مناطق بأكملها من السكان مثل منطقة الأهوار جنوب شرقي العراق، كما استخدمت في تطبيق بعض الجوانب المتعلقة بالسياسة الاقتصادية مثل السيطرة على الأسعار. كما حاول صدام حسين تسوية مشاكل حدودية وسياسية مع كل الدول المجاورة للعراق إما بالتهديد أو باستخدام القوة بالفعل. ليس هناك أي دليل على ان النظام العراقي، القائم على منطق القوة، قد تغير على نحو مهم، إذ يجب ان يعتبر هذا النظام، مثلما كان عليه الحال، خطرا يهدد دول الجوار ومصدرا لعدم الاستقرار في المنطقة. ستكون مناشدات صدام حسين الخاصة بوضع نهاية للوضع الراهن أكثر إقناعا إذا أبدى ما يشير إلى انه على استعداد لقبول إصلاح نظامه وعدم التركيز على الجانب العسكري وتطوير آليات بعيدة عن العنف لحل النزاعات.

الحقيقة الثانية المتعلقة بالوضع الراهن تتلخص في ان هناك توازنا جديدا للقوى في المنطقة يؤكد، للمفارقة، على أمن العراق في مواجهة دول مجاورة مثل تركيا وإيران. يجب ألا ننسى هنا ان العراق وإيران لا يزالان مبدئيا في حالة حرب وسيظل الحال على ما هو عليه إلى ان يجري توقيع اتفاق سلام. يجب ألا ننسى كذلك ان تركيا احتفظت بحقها المفترض في «الإشراف» على أجزاء في شمال العراق كما لا تخفي نياتها في الحصول على جزء من الأراضي العراقية في حال حدوث تغيير في خارطة المنطقة. فإذا ترك صدام حسين لوحده، سيقود العراق بالتأكيد إلى مغامرة جديدة تنتهي بتفكيكه.

الحقيقة الثالثة المتعلقة بالوضع الراهن هي انه امكن تجنيب المنطقة سباق تسلح كان سيدمر اقتصاد أكثر دولها ثراء. إيران، على سبيل المثال، لديها خطة طوارئ لزيادة الإنفاق على الدفاع متى ما خرج العراق من حالة الاحتواء الحالية المفروضة عليه من الولايات المتحدة وحلفائها. وإذا أخذنا في الاعتبار عدم التوازن السكاني بين إيران والدول العربية في المنطقة، فان أي إنفاق إضافي على التسلح يجب ان يقابله الضعف على الأقل من طرف الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. تمويل سباق تسلح مثل هذا يتطلب رفع أسعار النفط، الشيء الذي يترتب عليه حدوث عواقب على الاقتصاد يصعب التنبؤ بها وعلى نصيب منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك» على المدى الطويل. ليس ثمة شك ان هناك ثمنا يدفع لكل وضع راهن. وفي ما يتعلق بالوضع الراهن، فان الشعب العراقي هو الذي يدفع جزءا كبيرا من هذا الثمن ليس لأسباب موضوعية وإنما بسبب استغلال صدام حسين لمعاناة شعب العراق كسلاح دعائي في محاولته لتحطيم الوضع الراهن نفسه. طبقا لإحصائيات منظمة الأمم المتحدة، فان لدى العراق أكثر من 12 مليار دولار كاحتياطات نقدية مما جعله أكثر الدول الأعضاء ثراء في أوبك من ناحية السيولة. ومنذ العام 1999 يحتفظ العراق بحوالي 4 مليارات دولار في حساب مصرفي خصص لاستيراد الأغذية والأدوية إلى جانب الاحتياجات المدنية الأخرى متى ما قررت بغداد ذلك. كما ان القرار 660 الذي اتخذ بعد يوم من غزو العراق للكويت جرى تعديله بالقرار 661 الذي يحظر على العراق أسلحة الدمار الشامل، علاوة على ذلك فان المذكرات المتعددة التي وقعها العراق مع منظمة الأمم المتحدة تسمح له بتصدير أكبر كمية من النفط حسب نظام الحصص المعمول به في أوبك للإنفاق على أي شيء ما عدا المواد التي وافق العراق على عدم السعي للحصول عليها وتخزينها طبقا لبنود وقف إطلاق النار. تريد منظمة الأمم المتحدة ان تراقب إنفاق بغداد، وهذا إجراء يوفر قدرا من الحماية للشعب العراقي منعا للإنفاق على الواردات غير المجدية والمشروعات الكبرى التي أملاها جنون العظمة.

تغيير الوضع الراهن من دون رؤية لما يحل محلها سيكون مقامرة لا يتوقع ان يدخل فيها أي مسؤول، فإطلاق يد صدام حسين بشروطه هو سيترك مجموعة من المشاكل يمكن ان تتسبب أي واحدة منها في اندلاع نزاعات جديدة.

الأسئلة التي تتطلب إجابات تتضمن مستقبل العراق كدولة تجد كل المجموعات الدينية والعرقية فيها مكانا لها وتعيش في أمن وسلام. هل يتسبب إنهاء العقوبات في غزو عراقي للمنطقة الآمنة للأكراد في الشمال؟ ألن يؤدي إنهاء العقوبات إلى عودة مطالبة العراق بضم الكويت، خصوصا ان العراق لم يتخل عن هذه الادعاءات؟ ما هي القواعد التي ستحكم العلاقة بين بغداد ومجلس الأمن؟

شأنه شأن غيره، فإن الوضع الراهن موضوع حديثنا هنا سيتطور إلى وضع جديد. الأثر الفاعل الوحيد للعقوبات هو فرض حدود على السيادة الوطنية للعراق، إذ يجب رفعها حتى يعود العراق مجددا كدولة قومية ذات سيادة وحقوق كاملة. غير ان ذلك يجب ان يتم من خلال المفاوضات والتسوية والاتفاق بين العراق ومنظمة الأمم المتحدة وموافقة جيران العراق. إنهاء الوضع الراهن من دون التوصل إلى اتفاق حول توازن القوى الجديد ربما سيكون بداية لفترة نزاع وعدم استقرار سيكون العراق من الأطراف الخاسرة فيه، كما هو الحال في المرات السابقة.