البلقان في أوائل القرن الواحد والعشرين.. النزاعات المتجددة

TT

ارتفعت حرارة الموقف في البلقان وعاد الانفلات الامني منذرا بالخطر الجديد الذي يمثل امتدادا للتفجيرات السابقة التي ادت الى تفتيت الفيدرالية اليوغسلافية لتنطلق في اتجاه جديد ستكون بدايته في مقدونيا وليس في الجبل الاسود التي تجاوزت حسب الجميع مرحلة (النضوج) الانفصالي..

ومن الواضح ان التوتر المتنامي والمتزايد الوتائر منذ ايام على الحدود اليوغسلافية ـ المقدونية بفعل الهجمات المسلحة للانفصاليين الالبان المنضوين فيما يسمى (جيش التحرير الوطني) يؤشر لبداية مرحلة جديدة ذات بعد نوعي في تاريخ الازمات البلقانية منذ اوائل التسعينات وحتى الآن.

ولكن الشيء الجديد في ما يحدث في الجزء الغربي (جغرافياً) من البلقان هو انه ولاول مرة تسجل محاولة اكثر من (سافرة) تستهدف اقحام الدولة المقدونية المستقلة وزجها بشكل مباشر في الصراع الالباني ـ الصربي المسلح الذي لا يزال حتى الان محصورا في نطاق ما تبقى من الفيدرالية اليوغسلافية.

حرب بلقانية جديدة ان المصادمات المسلحة بين المجموعات الالبانية وحرس الحدود المقدونيين في قرية تانوشيفاتس الحدودية ولدت لدى المعنيين بالشأن البلقاني نفس ذلك القدر من القلق الذي اقض مضاجع القوى الاقليمية والدولية واثار قدرا كبيرا من المخاوف من امكانات انتقال النزاع الصربي الالباني من جنوب صربيا الى مقدونيا، وبالتالي تشابكا جديدا لمصالح واتجاهات متعددة متصارعة تستفز في النهاية حربا بلقانية جديدة.

ومهما يكن فإن السؤال الذي يلح الان هو: ما هي الظروف التي تلح وتفرض منطق تحول التوتر الحدودي الراهن الى حرب محتملة في المنطقة؟

قبل كل شيء لا بد من الاشارة الى ان السياسة الاقليمية على المستوى العالمي واجهت خلال اعوام التسعينات في القرن الماضي، تحديات جديدة تمثلت في نشوء وظهور حركات عرقية ـ دينية يتعدى وجودها حدود الدولة الوطنية الواحدة لتنتشر في ما وراء الحدود، حيث توجد اقليات عرقية محددة ذات جذور تربطها بالدولة الام، لتتحول الى عامل خلخلة ليس للدولة التي تحتضنها فحسب، بل زعزعة استقرار الدول المجاورة! فعلى سبيل المثال فإن الحركات الصربية والكرواتية التي تفرعت منها تشكيلات سياسية وتنظيمات ذات طابع عسكري تمكنت من احداث اهتزازات جدية خطيرة داخل البوسنة وكرواتيا وصربيا في آن واحد، الى درجة انها نجحت في خلق حالة من التوتر المنتظم وطويل الامد في الجزء الشمالي من البلقان في المرحلة من 1992 ـ 1995.

وعلى هذه الخطى وبنفس هذا النهج نرى ان الحركات الاثنية الالبانية التي لها فروع وامتدادات خارج حدود الدولة الوطنية (القومية) وبالتحديد في (كوسوفو وجنوب صربيا ومقدونيا) مضت في (انتاج) سلسلة من الازمات المتواصلة ولكن هذه المرة في الجزء الغربي من البلقان في الفترة منذ عام 1999 وحتى اليوم الراهن! الا ان الخاصية والميزة الجديدة لهذه الازمات الاقليمية الراهنة تكمنان في انها لم تعد كما كانت في العام الماضي نتاجا لاوضاع دولية معينة، بل هي الان مصدرها افعال ونشاطات تقف وراءها حركات عرقية ـ دينية تتعدى في وجودها التنظيمي حدود الدولة القومية الواحدة الى درجة ان هذه المجموعات او الحركات اضحت قادرة على زج الدول المجاورة في صراعات داخلية مستفيدة بشكل مثالي من العلاقات المتأرجحة بين هذه الدول وما يعتريها من خلافات متعددة الاشكال والخصائص ارتباطا واعتمادا على دينامية وطبيعة تطورها الذاتي.

ونحن جميعا كنا شهودا طيلة السنوات العشر الاخيرة على مظاهر هذا الانجذاب والاقتحام القسري للدول المختلفة في الصراعات الداخلية وبالوسائل السياسية والعسكرية على حد سواء. هذه الظاهرة وضعتنا امام حالتين متباينتين تماما، الاولى يمكن وصفها بالسيئة وتتمثل في ان الازمات ذات الطابع الاقليمي التي تحركها وتستفزها حركات ومنظمات يتعدى وجودها التنظيمي والهيكلي خارج حدود الدولة القومية، اخذت تتنامى بصورة تجعل من المستحيل التكهن بمداها ومساراتها وتأثيراتها في المستقبل المنظور والبعيد! بالتالي وضمن هذا السياق هناك عوامل مختلفة في جوهرها ومحركاتها وهي ليست بالضرورة (عقلانية) من الممكن ان تدفع منظمات وحركات لا يقتصر وجودها أو نشاطها داخل دولة او منطقة محددة الى اثارة واستفزاز نشوب نزاعات مسلحة بشكل متواز ومتزامن على اراضي اكثر من دولة في المنطقة.

اما الحالة الثانية التي يمكن وصفها بالحسنة فتتجسد في ان هذه الازمات الاقليمية بشكلها الشامل ستبقى محصورة النطاق اذا اختفى او انعدم تدخل دولة خارجية في نزاع مختلق، مما سيساعد على جعلها ضعيفة ومحدودة التأثير والكثافة.

ان نظرة تحليلية للصراع البوسني تبين أطر وملامح مسألة غير قابلة للشك أو التشكيك، وتكشف ان الاطراف المعنية مباشرة بالصراع البوسني (الصرب والكروات) تعدت في تدخلها مجال الدائرة الدبلوماسية الى التورط العسكري المباشر، اذ لم تقصر تدخلها على تزويد الحركات العرقية المحسوبة عليها بالسلاح والذخيرة، بل ارسلت قطعات من قواتها المسلحة الى مسرح العمليات الحربية للقتال جنبا الى جنب معها ضد الطرف الآخر، وهذا هو بالتحديد العامل الذي حول القضية البوسنية الى ازمة ذات امتدادات وتأثيرات اقليمية، وبكلمات مختصرة «هذا التدخل جعل من البوسنة ساحة لحرب مفتوحة بين الصرب والكروات»!.

في كوسوفو، الامر مختلف تماما، ذلك ان الطرف الاجنبي الوحيد المعني بشكل مباشر بدعم الانفصاليين الالبان، هو الدولة الالبانية التي نظرا لهشاشة كيانها السياسي وضعفها العسكري، لم تستطع وعجزت تماما عن التدخل المباشر في الحرب الكوسوفية ضد صربيا، واقتصر دورها على امداد المجموعات الانفصالية بالاسلحة والذخيرة ووضع معسكرات الجيش في الجزء الشمالي من البلاد تحت تصرفها لتدريب المتطوعين على فنون القتال وحرب العصابات.

واليوم، وبعد مرور هذه المسافة الزمنية على النزاع الذي لم ينته، او الذي لم تكتمل عناصره ونتائجه حتى الآن، نستطيع القول انه لو كانت العاصمة الالبانية تيرانا فشلت في استقطاب الناتو للتدخل لصالح المتمردين الالبان لكانت الازمة ظلت محصورة في النطاق الضيق داخل حدود الاقليم على شكل مصادمات ومواجهات مسلحة متواصلة ومختلفة الاشكال بين المقاتلين الالبان والقوات الصربية! اي ان كوسوفو كانت ستظل مسرحا لحرب عصابات محدودة التأثير على خلاف البوسنة التي اصبحت حربا اقليمية اقتضت تدخلا دوليا لوقفها وتضييق انعكاساتها وتأثيراتها على الاصعدة المحلية والاقليمية والعالمية.

حرب عصابات طويلة الأمد ان الحالة الجديدة الراهنة على الحدود اليوغسلافية ـ المقدونية مماثلة بجوهرها وشكلها للحالة الكوسوفية اكثر مما في البوسنية، لسبب بسيط وهو ان الحركة الاثنية الالبانية الانفصالية لا تهدد مقدونيا بنشوب حرب اقليمية لانعدام وجود طرف خارجي (البانيا بالتحديد) في المنطقة مستعد لزج نفسه في نزاع مسلح مفتوح مع مقدونيا.

غير ان المشكلة الاكثر تعقيدا هي ان الدولة المقدونية الفتية التي تشكل الاقلية الاثنية الالبانية فيها نسبة تتعدى الـ %40 من مجموع السكان الكلي البالغ مليوني نسمة، تواجه تهديدا جديا بحرب عصابات طويلة الامد بكل ما ينجم عنها من موجات الارهاب والعنف واللاجئين، مع التشديد على ان هذا التهديد لا يتعلق مباشرة او يرتبط بطبيعة الاهداف التي تبغي تحقيقها الحركات الالبانية المتطرفة التي يتعدى وجودها التنظيمي الدولة القومية الواحدة! ان الاستفزازات المسلحة وفق المقارنات التحليلية، هي وسيلة (شاملة) ذات طابع عام لتحقيق اي هدف تسعى اليه الحركات الاثنية المسلحة ذات الطابع متعدد الوجود خارج الدولة القومية الواحدة.

ان المشكلة الالبانية تلح اليوم وتتجسد بشكل حركة عرقية خارج نطاق الدولة القومية الواحدة التي حالها حال اخرى مماثلة تستقطب دولا مجاورة وتقحمها في صراع داخلي، مما يعني ان العامل الالباني المتجسد على شكل حركة عرقية ذات امتدادات خارج الدولة الواحدة يتمتع بقدرات (خلاقة) لتوسيع صراعات محلية محدودة وتحويلها الى اقليمية وحتى دولية!!

* كاتب وصحافي عراقي مقيم في صوفيا