فقط لا غير!

TT

قالوا إن جدة الأولى في حمى الضنك، وإن التي تسبب هذه الحمى بعوضة مستوطنة تختار ضوء النهار لافتراس ضحاياها فتحولنا إلى كائنات ليلية لا نغادر بيوتنا إلا حينما ينطفئ النهار وتخلد السيدة «ايدز اجبتاي» ـ وهذا اسم البعوضة ناقلة المرض ـ إلى فراشها على إحدى ضفاف المستنقعات الشهيرة، ومن جرب حمى الضنك ليس كمن سمع عنها، فهي أسوأ من حمى المتنبي وأبي تمام والبحتري وكل الحميات التي أصابت الشعراء من عهد امرئ القيس لعهد نزار! وبسبب الفوبيا من هذه الحمى غدت أخبار هذه البعوضة شغلي الشاغل من قراءة الصحف كل صباح، أتقصى أخبارها في حلها وترحالها، وأتابع هزائم وزارة الصحة وأمانة جدة المتلاحقة في حربهما معها، وإن كنت أظن أنها مجرد حرب باردة «مثلجة» تخاض على صفحات الجرائد.

وفي كل مرة يقولون إن جدة تحتل المركز الأول في عدد الإصابات بحمى الضنك، أتذكر أغنية قديمة لعفاف راضي «كله في المواني يابا.. كله في المواني»، فهذه المدينة الميناء «حمَالة أسية»، وهي تتنافس منذ مدة مع شقيقتها جازان ـ الميناء الآخر ـ على المركز الأول في «مسابقات» كثيرة! حتى حينما ضبطت هيئة الغش التجاري بجازان قبل أيام 30 ألف صحن تحتوي على مادة «الفورمالدهايد» المسببة للسرطان تباع في الأسواق، سارعت أمانة جدة بضبط أكثر من 300 طن «فقط لا غير» من اللحوم المجمدة التي تم تخزينها في أماكن غير صالحة، ثم تسييحها، وبيعها على أنها لحوم طازجة بعلم ودراية أصحاب تلك البقالات الكبيرة والشهيرة، كما صرح بذلك للصحافة مدير إدارة مراقبة المواد الغذائية بالأمانة. وأعترف أنني حين قرأت هذا الخبر ضربت أخماسا في أسداس وأنا أعد حبات «السمبوسة» التي ابتلعتها كل مساء منذ دخول شهر رمضان الكريم حتى قراءة هذا الخبر، خاصة أنني أعرف أن زوجتي المسؤولة عن التموين في بيتنا «بورجوازية» لا تذهب إلا لتلك المراكز التجارية الكبيرة بحجة أن بضاعتها أكثر أمانا من غيرها، وأن إداراتها أكثر حرصا على سمعتها.. والحقيقة أنها «خوش» سمعة، و«خوش» أمان!

والطريف أننا نحن سكان جدة ـ غير الموقعين أدناه ـ قد اعتدنا أن ندلع هذه المدينة فنطلق عليها دلالا لقب عروس البحر، ولا نتردد في رواية تلك الشائعة الأسطورية بأن جدة لم تكن تطل قط على البحر، لكن البحر قد استمع ذات صباح للنوارس تهمس بجمالها، فرحل إليها وتقدم لخطبتها، ومن يومها وجدة والبحر عاشقان لا يفترقان، فليحمي الله هذا العشق من حمى الضنك واللحوم المجمدة والسائحة والـ«بين بين»، ولجازان أيضا قسط كبير من الدعاء.

[email protected]