خمس سنوات على الانتفاضة الفلسطينية

TT

تجري في الأمم الحية دوما عمليات للحساب والتقييم، وكلما زادت الحيوية في الأمة كلما سقطت الأساطير والشخصيات والاستراتيجيات التي يجعلها البعض فوق المحاسبة وجرد النتائج ومراجعة الأهداف، وما تحقق منها، وما لم يتحقق، وما أصبح بعيدا بعد السماء السابعة! ومن الثابت أن بعضا من هذا يجري بالفعل داخل إسرائيل، حيث لا يقيمون فقط الانتفاضة الفلسطينية وآثارها على مدى السنوات الخمس الماضية، وإنما أيضا رد الفعل الإسرائيلي ومدى نجاحه في تحقيق الأهداف الإسرائيلية. بل إن هناك بوادر على أن بعضا من التقييم يجري حاليا داخل الشعب الفلسطيني نفسه، وأظهرته نتائج استطلاعات الرأي العام الفلسطينية، فضلا عما ينشر من آراء قال بها ساسة وأصحاب رأي.

وبالطبع فإنه يخرج عن ساحة المشاركين في الحساب هؤلاء الذين يعتقدون بان استمرار الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو هدف في حد ذاته، أو أن جوهر الصراع لا يزيد عن حالة مستمرة من الانتقام لما جرى من ظلم تاريخي، أو هؤلاء الذين حينما يفلس منطقهم ويظهر بجلاء عجزه عن تحقيق هدف قومي، فإنهم يوجهون سخطهم ذات اليمين وذات اليسار متهمين جمعا بالانبطاح، وجمعا بالاستسلام، ومتهمين الجموع كلها بالبقاء في النهاية ـ عن حسن أو سوء نية ـ في المربع الإسرائيلي! ففي مثل هذه الحالات فإن المراجعة والتقييم لا وجود لها، لأن الكاتب سوف يكسب مرتين: مرة عندما يحقق الفلسطينيون مكسبا فسوف يكون ذلك راجعا إلى المواقف الصلبة، أما إذا خسروا فإن ذلك سوف يكون للدلالة على الصلافة والعنف الإسرائيلي الذي لا يحتاج إلى تذكير. وإذا خرجت إسرائيل من غزة فذلك نتيجة المقاومة الباسلة والانتفاضة الصامدة، وعندما تقوم إسرائيل المهزومة توا في غزة بالقصف المستمر والقتل الجماعي والفردي للفلسطينيين في القطاع، فذلك دلالة على عدوانية إسرائيلية متأصلة اكتشفناها لأول مرة!.

مثل هذا المنطق الدائري لا يعرف استثمار النصر، ولا التعامل مع الهزيمة، فهو في الأول والآخر في حالة من الدروشة مع الصراع العربي ـ الإسرئيلي يلطم فيها الخد إذا ما حدث التحرير كما حدث في سيناء عام 1982 وفي الأراضي الفلسطينية بعد أوسلو، وكما يلطم فيها الخد بالطبع إذا ما استمر الاحتلال باعتبار ذلك هو الحالة الطبيعية التي عندها يكون ناموس الكون قد حقق توازنه.

ولكن تقييم الانتفاضة يظل طارحا نفسه علينا، ليس فقط لأنها جعلت هدف التحرير للتراب الفلسطيني المحتل عام 1967 قد صار أبعد مما كان، وإنما لأنها تظل الأسلوب الأوحد المطروح علينا من قبل تيار واسع داخل الساحة العربية والفلسطينية للتعامل مع الأوضاع المقبلة في القضية الفلسطينية. وحتى تكون الأمور دقيقة، فإن ما هو مطروح ليس استمرار الانتفاضة في شكلها السلمي القائم المظاهرات والإضرابات العامة، والاشتباك مع قوات الاحتلال، والتحالف مع جماعات السلام الإسرائيلية والعالمية، وببساطة كما كان الأمر في الانتفاضة الأولى. ولكن ما هو مطروح فهو استمرار الانتفاضة بعد عسكرتها، وهو ما حقق انقلابا في الساحة السياسية الداخلية الفلسطينية حينما جعل حمل السلاح ليس جزءا من عملية «المقاومة» فقط وإنما أيضا جزءا من عملية إعادة تركيب التوازنات الداخلية الفلسطينية لصالح فريق حماس والجهاد الإسلامي. والحقيقة أن بعض عقلاء الإسلاميين يعاتبون حماس لأنها تقوم باستعراضات الملثمين من جنودها، حاملين السلاح ومطلقين الطلقات في الهواء آخذين في الاعتبار «الرأي العام العالمي» الذي لا تسعده مشاهد لابسي الأقنعة. ولكن حماس لا يهمها في كثير أو قليل مواقف الرأي العام العالمي، ولا حتى يهمها عما إذا كانت الاستعراضات المسلحة في شوارع غزة تبث الرعب في قلوب الإسرائيليين، ولكن ما يهمها في المقام الأول هو الإشارة للشارع الفلسطيني نفسه أن حماس قد باتت واقعا سياسيا مسلحا مهما قالت الانتخابات والنظم الديموقراطية. هذا الواقع السياسي الجديد قلب معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي الاستراتيجية من كونها قائمة على «القومية» التي تريد تحرير أرض تقيم عليها دولة، إلى معادلة قائمة على «الدين» يستمر فيها الصراع حتى نهاية التاريخ.

هذا التحول التاريخي في المعادلة الاستراتيجية كان سببه الانتفاضة المسلحة ودور حماس فيها، وقاد في الواقع إلى تغيرات أساسية في أساليب الصراع وعائدها التكتيكي. ولأول مرة في تاريخ الصراع كانت الخسائر الإسرائيلية البشرية بهذا الحجم، مقارنة بالخسائر الفلسطينية، ولم يحدث في تاريخ الجولات السابقة للصراع أن انقلبت الحياة المدنية الإسرائيلية كما انقلبت خلال السنوات الخمس الماضية. وكان ذلك راجعا إلى أسلوب الهجمات الانتحارية/ الاستشهادية من جانب والتي وصلت إلى أعماق إسرائيل، وابتكار صواريخ القسام من جانب آخر والتي أصبحت عنوانا على صفحة جديدة من الصراع.

ولكن الجانب الإسرائيلي لم يكن ساكنا خلال مرحلة الانتفاضة، ورغم أنه كان السبب في نشوبها نتيجة اقتحام شارون لمنطقة المسجد الأقصى، والعنف الوحشي الذى قابل به الإسرائيليون المرحلة السلمية الأولى من الانتفاضة، إلا أن رد الفعل الإسرائيلي على عسكرة الانتفاضة أخذ مرحلتين: الأولى منهما كانت إعادة احتلال الأراضي الفلسطينية المحررة نتيجة عملية السلام التي بدأت في أوسلو، وبالتالي وضع نهاية لمسلسل لم يكن اليمين الإسرائيلي راضيا عنه منذ البداية، وبدأت مسلسلا جديدا تكون إسرائيل وحدها هي المتحكمة فيه وليس بالمشاركة مع الفلسطينيين ودول الجوار والمجتمع الدولي. والثانية ابتكرت فيها إسرائيل الحائط العازل للأراضي الفلسطينية والتي قلصت عمليا من قدرة الانتحاريين الفلسطينيين على اختراق إسرائيل؛ وعمليات القتل المقنن للقيادات الفلسطينية؛ وأخيرا عمليات الانسحاب من جانب واحد التي أصبحت ضرورة عملياتية من أجل تصعيد القدرة الإسرائيلية على قصف وتدمير الأراضي الفلسطينية عندما ترى إسرائيل وجود مدعاة تهددها أو ببساطة للعقاب.

وبعد خمس سنوات من الانتفاضة الفلسطينية خاصة بعد عسكرتها، فإن المعادلة الفلسطينية ـ الإسرائيلية قد تغيرت لصالح إسرائيل. فإذا كان التناقض الأساسي حول أرض فلسطين لا يزال مستمرا، إلا أن إدارة هذا التناقض خلال مرحلته الأخيرة أعطت لإسرائيل تماسكا داخليا لم يحدث أن حصلت عليه منذ فترة طويلة، فمع انهيار معسكر السلام القائم على اقتسام الأرض حسب ما كانت عليه في يونيو 1967، وانهيار اليسار الإسرائيلي كله، فإن شارون أصبح ممثلا للتيار الإسرائيلي الأساسي. ولا يقل أهمية عن ذلك هو نجاح شارون في الحصول على قبول، إن لم يكن إعجاب، الرأي العام العالمي، بسبب سياسته القائمة على الفصل الأحادي الجانب. وبشكل ما لم يحدث في تاريخ الدولة العبرية أن حصلت على تعاطف وتأييد دوليين كما حصلت عليه تدريجيا خلال سنوات الانتفاضة. ولم يكن ذلك راجعا لأن مصر وقعت اتفاقيات كامب دافيد، أو لأن عرفات وقع اتفاقيات أوسلو، ولكن لأن عسكرة الانتفاضة وقلبها من ساحتها الوطنية إلى ساحتها الدينية قد حولها من حق تقرير المصير إلى رؤية للعالم تختلف مع رؤى أخرى لا تقل عنها قداسة. وهكذا كانت الخاتمة هي انقسام الفلسطينيين وانفضاض الدنيا عنهم، واتحاد الإسرائيليين والتفاف الدنيا حولهم، ويا لها من حالة بائسة حقا!