العراق: استفتاء من كانت لاؤهم.. نَعَم!

TT

بعد يومين سيتقاطر العراقيون، أو قسم منهم، إلى مراكز الاستفتاء على دستور البلاد الدائم. للإدلاء بلا أو نَعَمْ. وبين الترغيب من أجل (نَعَمْ) وبين الترهيب من أجل (لا) يبعث التاريخ العراقي من جديد، لكن بشكل آخر هذه المرة.

كان الترغيب والترهيب معاً من أجل (نَعَمْ)، ولا وجود لأداة (لا) في القاموس الرسمي، وإن قيلت فعلى قائلها تحسس رأسه هل ما زال منتصباً على رقبته؟ لقد كلفت (لا) حياة الآلاف من العراقيين، لذا جاءت نتيجة الاستفتاء على ولاية صدام حسين مدى الحياة 99 بالمائة وأعشار، بما فيهم أمهات المقبورين جماعياً، وأولاد رفاق البعث المقتولين، المتناثرة قبورهم على طول وعرض المنطقة الغربية ناهيك عن الجنوب والوسط.

ومما لا ريب فيه أن مسودة الدستور العراقي، حسب تصريحات رئيس الجمهورية جلال الطالباني وبقية المسؤولين، هي ليست مثالية، ولم تنل إعجاب الجميع، بما فيهم الائتلاف الشيعي والتحالف الكردستاني. كذلك لم تنل رضاء مَنْ لا يجدون مبرراً لزج الدين في السياسة والدولة، ولم تلب للنساء مطالبتهن المزمنة.

لكن أجد كلاً من هذه الفئات قد نال قسطاً مما يريد، وإن لم ينل ما يريد فيمكن الاكتفاء بالموازنة التي أشارت إليها معظم المواد: بين الدين والديمقراطية، حقوق النساء وسطوة الرجال، ما بين المذاهب، وما بين ألسن البلاد. ومن أجل تجاوز الظرف الراهن، والاستفادة من حالة التوازن سعى العديد من القوى غير الراضية على المسودة إلى التحفظ مع دفع أتباعها إلى الاستفتاء بـ (نعم)، مثلما فعل الحزب الشيوعي العراقي. علماً منها أنها ليست كتاباً منزلاً، أو نصاً مقدساً، بل كتبت بأقلام بشر خطائين، وهناك إمكانية للتعديل والتغيير ليست بعيدة بحساب حراجة الظرف.

بيد أن المشكلة قد لا تحصر في المواد العامة ذات الشأن الاقتصادي أو السياسي المتغير، بل الذين أشاروا إلى أعوانهم بالاستفتاء بـ (لا) أو المقاطعة، وما جاء على لسان الجماعات الإرهابية من وعيد، قصدوا مواد لا يمكن للعراق أن يبقى موحداً من دونها، وفي مقدمتها هوية العراق القومية، ولغته الرسمية.

ورد في المادة التاسعة: «اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق، ويضمن حق العراقيين بتعليم أبنائهم بلغة الأم كالتركمانية أو السريانية أو الأرمنية في المؤسسات التعليمية الحكومية». و«تستخدم المؤسسات والأجهزة الاتحادية في إقليم كردستان اللغتين».

مقابل ذلك جعلت الدساتير السابقة كافة اللغة العربية هي اللغة الرسمية الفريدة بالعراق، لذا ظلت رسمية اللغة واحدة من معضلات القضية الكُردية، بل سبباً في خلق تعصب قومي كُردي، واستعلاء قومي عربي. وكم يرتفع مستوى التعصب والضغينة القومية إذا أضيف إهمال ذكر القوميات الأخرى في الدساتير السابقة، ما عدا دستور 1958، وأضيف اعتبار اللغة الكُردية لهجة عربية، وأن أُصول ناطقيها عرب اعتصموا بالجبال فمالوا عن العربية (مروج الذهب).

جاء في المادة الحادية والعشرين من الدستور الجمهوري المؤقت: «يقوم الكيان العراقي على أساس من التعاون بين المواطنين كافة باحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم ويعتبر العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن». لكن لم تترجم تلك الشراكة على أرض الواقع، لأن المد العروبي المتفشي في أوصال الدولة العراقية كان عاملاً معرقلاً. وهنا نستشهد، لمعرفة أُصول هذا التفشي، برسالة أحد أعلام العهد الملكي العراقي وهو رئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي إلى أمير بصري، بعد عتاب متأخر على ما حدث لليهود العراقيين: «ربما كان خطأنا الأساسي في الثلاثينيات من هذا القرن أننا لم نؤكد على الوحدة العراقية في سياستنا التربوية قدر تأكيدنا على القومية العربية» (أعلام السياسة في العراق الحديث). وليس في دستور 1925 من إشارة إلى حقوق القوميات الأخرى ما عدا المادة السادسة عشرة: «للطوائف المختلفة حق تأسيس المدارس لتعليم أفرادها بلغاتها الخاصة، والاحتفاظ بها على أن يكون ذلك موافقاً للمناهج العامة التي تعين قانوناً». ومعنى ذلك لا تتحمل الدولة تبعات تعليم أبناء بقية السكان إلا باللغة العربية.

إن المعترضين على المواد الخاصة بانتماء العراق القومي، وما يخص لسانه الرسمي، قد لا يقبلون بأقل مما جاء في المادة الأولى من دستور 1968 البعثي: «الشعب العراقي جزء من الأمة العربية هدفه الوحدة العربية الشاملة، وتلتزم الحكومة بالعمل على تحقيقها». ووفقاً لتحديد انتماء العراق كجزء من الأمة العربية ستبقى القضية الكُردية العراقية معلقة، بل لن يستغني كُردي عن المطالبة بالانفصال وفي الوقت الحاضر.

لذا جاءت الفقرة (ب) من المادة السابعة في قانون إدارة الدولة، وقد كُتب بأياد عراقية أيضاً، ثم المادة الثالثة من مسودة الدستور الدائم: «العراق بلد متعدد القوميات والشعب العربي فيه جزء لا يتجزأ من الأمة العربية» حلاً مناسباً يمهد إلى توكيد وحدة عراقية قائمة في القلوب قبل الجغرافيا.

وما تدر علينا تجارب الأحزاب السياسية الوطنية العراقية، من غير الأحزاب الكردية، أن مثل هذه المادة لم تكن بعيدة عن أماني العرب العراقيين ممَنْ يحرصون على وحدة العراق، والتوجه إلى مشاريع البناء بديلاً من مشاريع شق طرق للدبابات بين جبال العراق ووديانه.

نعم، هناك ما يمكن المطالبة والإصرار على تعديله في المستقبل القريب، وما هو ما يتعلق بإلغاء فكرة الفدراليات خارج المنطقة الكُردية، وإبعاد مراجع الدين عن الشأن السياسي والإداري المباشر.

لأن في حالة المذهبية والطائفية العراقية اليوم يؤدي هذا التدخل إلى تعقيد الأمور، واستحالة الحلول، فكل سيتمترس وراء مرجعيته، ولا جامع من بعد شتات.

يمر العراقيون وهم يستفتون، أول مرة في حياتهم، على دستور دائم في أحرج الظروف وأبعدها عن التوافق التام، الإرهاب يضرب في كل مكان، والأزمات تتوالد يوماً بعد يوم.

لكن تخييرهم بين النعم واللانعم قد يحسدون عليه، ففي زمنهم الماضي كانت لاؤهم نَعَمْ. ولولا التشهد، على حد ما ينسب للفرزدق، لألغيت اللا من قاموسهم السياسي والاجتماعي. لقد أزمنوا على قول (نَعَمْ): للأب، والمعلم، وشيخ العشيرة، والشرطي، وقائد الحزب، والمرجع الديني، والحكومة عامة، فلهم الابتهاج بقول (لا)، لو كانت في مكانها المناسب!