غازي كنعان

TT

عرفت غازي كنعان في عشاء أقامه اللواء سامي الخطيب في بلدته ذات ليلة ثلجية قاسية من شتاء 1998. وقبل أن أراه كان ذكر اسمه يرعبني. وصدف أنني كنت الى الطاولة الى جانبه، فراح يباسطني. ثم وضع في يدي مسبحة ثمينة كان يداعب حباتها. وبعد قليل حاولت أن أردها له، فدفعها اليَّ من جديد، قائلاً: «هل ترفض أن تعقد صداقة معي؟». وفي نهاية العشاء أعطاني بطاقة مذهبة. ثم دوَّن عليها رقمه الخاص، وقال، ضاحكاً ايضاً: «هذا معي 24 ساعة. لا توفرني في شيء».

وفرته في جميع الأشياء. فالصداقة مع الرجال الغامضين تعرف بداياتها ونهاياتها غامضة. وقد قمت بزيارته بعد ذلك أربعا أو خمس مرات. وفي كل مرة كان حريصاً على أن يصرف عني صورته الأخرى، الرجل المرعب. وكان السياسيون اللبنانيون الذين يرونني عنده، يعاملونني فيما بعد بتزلف، ظنا أن لي موقعاً شديد الخصوصية أو النفوذ لدى غازي كنعان. ومنذ أن غادر عنجر لم أزرها، لا في مناسبة ولا في غير مناسبة.

أمضى غازي كنعان نحو ربع قرن من حياته في لبنان. جاء ضابطاً صغيراً من حمص، حيث طوَّع المنشقين. وأوكل إليه تطويع طرابلس وتجنيد بعضها. وبعدها أصبح الآمر الناهي في بلد يدلل أهل النفوذ مثل المدلكين في الحمام التركي. وأمسك غازي كنعان بسياسات لبنان في كل مفاصلها. وجنَّد من شاء، فيما تطوع كثيرون وطلبوا القرب بالمئات. وكان يوزع المناصب والمكاسب. ويعرف نقاط الضعف عند الرجال فيستغلها. وبعدما كان السياسيون اللبنانيون يتوجهون يومياً الى دمشق ويتوزعون على مكاتبها، أفهموا أن الطريق الى سورية تنتهي في عنجر.

ولم يعد غازي كنعان مجرد ضابط «استطلاع» لشؤون القوات السورية، بل طار البروتوكول الرسمي، وصار منزله محطة استقبال لرؤساء البرلمان والحكومات وحتى زعماء المقاومة بكل وهجهم الوطني. وأحيانا كان الثلاثة معاً يلتقون الى مائدة الضابط المقيم في عنجر. وصار غازي كنعان فيما بعد يقرر في شؤون بعض المواقع الدينية، وفي الانتخابات البلدية، وفي الحياة الأكاديمية ورئاسة الجامعات. وطبعاً كان له أيضا كلمة يقولها لبعض القضاة والنواب والوزراء وسواهم. وحيث فات غازي كنعان فسحة أو دائرة أو قضية، كان اللبنانيون يحشرونه فيها حشراً. وسوف يأخذ معه، في هذا الموت العاصف، أسرار الكثير من هؤلاء. لكن الأهم من تلك اليوميات الصغيرة، ما سيأخذه من قضايا سياسية كبرى، ومن تحريك ماهر للساحة اللبنانية كحلبة تتصارع عليها قوى كثيرة، من الأقاليم والأمم. وسوف يشعر الجنرالات اللبنانيون المعتقلون بالصدمة الكبرى لانتحار رجل كان المشرف المباشر لحقبة طويلة. وسوف يرتاح كثيرون لغياب غازي كنعان، في هذا الوقت وهذه المرحلة. فقد كان شاهداً نادراً وربما كان أهم مخزن معلومات في الشرق الأوسط. إذ إضافة الى لبنان، كان يعالج ملف العراق والملف الفلسطيني والملف التركي. ولعله الرجل الوحيد في تاريخ سورية الذي اعتبر وصوله الى وزارة الداخلية إنقاصا من موقعه، وليس العكس.