العالم العربي: جدلية المسألة لدستورية الجديدة

TT

عادت المسألة الدستورية بقوة إلى الساحة العربية في الأشهر الأخيرة، في بلدان عديدة، بدءا بالعراق حيث تشكل عقدة عصية على الحل، وفي مصر حيث شكلت رهانا محوريا من رهانات الانتخابات الرئاسية المشحونة التي نظمت أخيرا، وفي موريتانيا حيث تجري هذه الأيام مراجعة دستور يوليو2001 بعد تغيير 3 آب الذي أزاح الرئيس ولد الطايع عن مقاليد الحكم.

وتختلف المسألة الدستورية الحالية على المطالب الدستورية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من حيث كون تلك المطالب قد ارتبط أوانها بالإشكالية النهضوية أي بهدف إصلاح الدولة السلطانية المنهارة وتجديد نسيجها السياسي منظور تحديثي.

فالمسألة الدستورية الجديدة ترتبط بملفين أساسيين هما معضلة التماسك الوطني الهش في مجتمعات متعددة القوميات والطوائف، وعقدة التناوب المسدود التي تشل حقل السياسي العربي.

وقد برزت المعضلة الأولى بحدة في السودان والعراق في ظروف متفجرة طبعتها الحرب الأهلية الطويلة في السودان وحربان إقليميتان في العراق تلتهما فتنة دموية متعددة الأبعاد والخلفيات.

فالمسألة الدستورية في البلدين تتعلق بهوية الدولة وطبيعة مشروعها الوطني والعلاقة بين مكوناتها الداخلية.

فعلى الرغم أن مختلف الدساتير التي اعتمدتها الدول العربية منذ استقلالها قد استندت لمرجعية حقوق الإنسان المعاصرة، وفي مقدمتها مفاهيم المواطنة والمساواة، إلا ان هذه المرجعية تم التعبير عنها بصيغة شديدة المركزية مستوحاة من النموذج القومي الأوروبي التقليدي بدون الضوابط التي وضعها هذا النموذج لضمان حقوق الأقليات والقوميات، وأهمها الآلية الديمقراطية التعددية.

وعلى الرغم أن الدستورين السوداني والعراقي نصا على نمط من الفيدرالية، إلا أن الواقع الفعلي فند هذا الادعاء، فظل الجنوب السوداني والشمال العراقي منطقتين مضطهدتين، منتهكتي الحقوق الثقافية والسياسية.

وبعد مخاض طويل وعسير، تمكن الفرقاء السودانيون من تحقيق مصالحة شجاعة كرست التوافق حول المبادئ والنظم التي ستقوم عليها الدولة السودانية الجديدة، من حيث هي دولة فيدرالية يتمتع فيها الجنوبيون بحقوقهم كاملة، بما فيها حق تقرير المصير بعد انتهاء المرحلة الانتقالية الحالية.

وهكذا قنن الدستور الجديد هذا التوافق الذي أخرج البلاد من محنة الحرب الأهلية الطويلة.

أما الحالة العراقية، فتعقيدها أشد، وحدتها أبعد، بسبب تشابك وتداخل المعطيات القومية والطائفية والإقليمية فيها، والتباس الوضع الداخلي بالآثار الناجمة عن حالة الاحتلال والأجندة الأميركية المرتبطة به.

فلئن كان من الصحيح أن الحقوق القومية الكردية قد انتهكت في العهد السابق الذي وظف الشعار العروبي بطريقة إقصائية استبدادية، إلا أن مسودة الدستور المقترحة اعتمدت النموذج الفيدرالي الموسع الذي يتجاوز المطلـب التقليدي الكردي بفسح المجـال أمـام نموذج اتـحادي معقد علـى أساس طائفي ـ قومي قد يخلـق مـن المشـاكل أكثـر ممـا يحل بتقنينه لمعادلـة المكونـات الثلاثة (الشيعة، السنة، الأكراد) التي هي في بعض جوانبها مختلقة تفضي إلى التدخل في النسيج الوطني العراقي بتفكيك هويته الموحدة.

ففي هذه الحالة، تعكس المسألة الدستورية في العراق موازين الصراع القائم أكثر مما تحل الأزمة القائمة، ومن ثم ندرك غياب الحد الأدنى من التوافق بين ألوان الطيف السياسي حول الموضوعات الخلافية الحادة ذات الصلة بهوية البلد وانتمائه.

اما الحالة الدستورية الموريتانية التي نتجت عن تغيير 3 آب الماضي، فتتجاوز سمتها المحلية الخاصة لتتعلق بجوهر معضلة التحول الديمقراطي في البلاد العربية التي تتلخص بانسداد سبل التناوب السلمي على السلطة.

فمن المعروف أن الدساتير العربية بكاملها تقريبا لا تقدم ضوابط لهذا الخيار الذي هو نقطة ارتكاز أي ديمقراطية حقيقية، بل تغفل تقييد الدورات الرئاسية المتاحة، وتكرس في الواقع السلطة المطلقة الدائمة، فلا تترك فرصة للتداول على الـحكم إلا بالانقلابات العسـكرية أو التدخل الخارجي (كما في الحالة العراقية).

ومن الواضح ان مطالب قوى التغيير الديمقراطي في العالم العربي تتمحور حاليا حول السبل القانونية والإجرائية لتكريس خيار التناوب. ومن هنا أهمية الإصلاح الدستوري المرتقب في موريتانيا الذي يقيد الدورات الرئاسية المتاحة بدورتين ويوطد صلاحيات المجلس التشريعي والحكومة للحد من سلطات رئيس الجمهورية. ونلمس الحوار ذاته وفق مسالك وخلفيات مغايرة في ساحات عربية عديدة. فما نلاحظه بجلاء هو انعكاس إشكالات التحول الديمقراطي في حركية تتخذ شكل تغيير قانوني، منطلق أن الدستور يشكل عقد التوافق الوطني، وليس مجرد وثيقة مرجعية رمزية مستنسخة من الدساتير العالمية.

وقد أشرنا في هذه المقالة إلى جانبين من جوانب عقدة التحول الديمقراطي في البلدان العربية من خلال المسألة الدستورية.