مداخلة مع الراشد: حول «البداوة» و«الجمل»..!

TT

في رده البليغ الأنيق رفيع الخلق، تحت عنوان «من طه ياسين إلى بيان صولاغ»، بتاريخ 4/10/2005، قال عبد الرحمن الراشد هذه الفقرة الهامة: «... ولعلم الوزير العراقي، فالبداوة ليست في نظر أهل الجزيرة العربية بمذمة بل يفاخرون بها في أصولهم وتراثهم... وركوب الجمال أيضاً ليس منقصة لو كان صحيحاً... أما الأسوأ فهي محاولته إثارة النعرات...»، والذي أحب تأكيده هو أن «البداوة» و«ركوب الجمال» ليسا بمذمة أو منقصة عند كل خلق الله الذين يعقلون وعند أولي الألباب.

المؤسف أن هذه المفردات: «بداوة»، «جمل»، «صحراء»... إلخ، صارت من قاموس شتائم مثقفي العرب، المسلمين بالذات، يستعلون بها على «أنفسهم» بعد أخذها من فم أعدائهم، ذلك بعد أن تخندقوا مع الجانب الذي يتعمد تشويه كل ما هو ناصع عند العرب والمسلمين، إلى أن وصلوا إلى اعتبار فتح المسلمين لمصر على يد عمرو بن العاص، «غزوا صحراوياً» و«استعماراً بدوياً»، ممن جاؤوا على «الجمال» ليقضوا على «الطريقة المثلى» في أرض «الحضارة الفرعونية»!

والله هذا كلام قرأته لبعض كتاب يجلسون في الصف «الأكالنجي شكولاته وكراميللا» ـ على حد قول الشاعر نجم ـ هذه الفئة من «المثقفين» بدأوا بالهجوم على الخلافة العثمانية، بالحق والباطل، مستعيرين حيثيات أدبيات الاحتلال الفرنسي والإنجليزي، بل إن بعضهم قالها صراحة أن الحملة الفرنسية جاءت لتحرر مصر من الاحتلال العثماني، ثم التفتوا إلى العصر المماليكي يبخسون حقه، وما لبثوا حتى مالوا على صلاح الدين الأيوبي يلطمون وجهه كيفما اتفق، حتى وصلوا إلى إدانة عمرو بن العاص، ليس بسبب الفتنة الكبرى والتحكيم، بل تحديداً لأنه الذي فتح مصر وتسبب، جزاه الله عنا كل خير، في أن أصبحنا عرباً ومسلمين، والتهمة، الشرف، المتكررة بالنص «غزو ثقافة البدو الآتية على الجمال من الصحراء لحضارة مصر الفرعونية!».

كأن هؤلاء، الذين يتلذذون بلعق بصاق التحيز الغربي على وجههم، لم يتعلموا من القرآن الكريم التعريف الجوهري لمعنى «الحضارة»، التوحيد وكرامة بني آدم ورفض الطغيان والظلم والجبروت والاستعلاء بالترف والبنيان والزخرف، فهذا فرعون يستعلي على رسول الله موسى: «ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين*» _ الزخرف / 51، 52.

القرآن الكريم يعلمنا الاستهانة بالعلو في البنيان مستشهداً بإرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وغيرها وغيرها..، والأمثلة كثيرة يعرفها العامي فما بال بعض «المثقفين» لا يفقهونها؟

إلى من ينتمي نبينا ورسولنا الهادي محمد بن عبد الله؟

أإلى نمرود، طاغية بلاد ما بين النهرين وحضارتها الوثنية التي يفتخر بها، أم إلى ملة أبينا ابراهيم، الذي سمانا المسلمين، والذي لم يؤمن بدعوته للتوحيد أحد من أهل «الحضارة»؟

وهل ركب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم «الجمل» أم «الفيل» أم مراكب الأكاسرة والقياصرة المطهمة والمزوقة بالذهب والفضة والجوهر والعبيد؟

أو لم يجلس صدام حسين ظالماً طاغياً مستعلياً بحضارة العراق، متوحداً مع حامورابي ولم تمنعه «حضارته» العريقة من ذبح العراق وشرب دمه؟ فياليته تعلم من راكب الجمل: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»!

بعيدا عن موضوع الخلاف السياسي وتباين وجهات النظر بين أخوين وزيرين عربيين مسلمين، أنا مشغولة برفضي واشمئزازي من ألفاظ غاضبة، لم ينجح الوزير العراقي في كبحها وكظمها، بل في رفضها تماماً منطلق عقيدته وإنسانيته، سواء كان اسمه «بيان جبر» أو «صولاغ» أو حتى «أنوشروان»، فنحن الذين نعطي أسماءنا دلالتنا ووعينا وليس العكس، فأسماؤنا بذاتها ليست مسؤولة عن أقوالنا أو سلوكياتنا، لذلك لا يجوز المعايرة بها للتلويح بأصول عرقية امتزجت، عبر الزمن الاسلامي، حتى أصبح المسلم لا يسأل عن أصله وفصله أينما سار وجال على أرض أمة محمد المبعوث رحمة للعالمين.

الحقيقة أن «المعايرة» و«إثارة النعرات»، لا تجوز في كل الأحوال، فهي من «التنابز» المنهي عنه قرآنيا : «ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون» ـ الحجرات / 11.

وقانا الله شرّ مقاديره.