مغامرة عمرو موسى المستحيلة في العراق

TT

ليس بوسعنا الآن أن نتحدث عن نتائج المغامرة التي يقوم بها عمرو موسى في بغداد، لكننا نعرف أمورا محددة، منها أنه يحمل مبادرة عربية طرحت فكرتها الأساسية في نيويورك، أثناء وجود وزراء الخارجية العرب لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وأن عناصرها تبلورت في اجتماع لجنة المبادرة العربية في جدة، نعرف أيضا أن مشاوراته بصددها ستتواصل في طهران بعد بغداد (تسلم قبل أسبوع دعوة رسمية لزيارة إيران)، ونعرف كذلك أن القاهرة تحظى بقبول وتشجيع أميركيين.

لا مبالغة في وصف رحلة عمرو موسى لبغداد بأنها مغامرة، بعدما استبق الجميع وقال إنها «صعبة وخطرة» وليس الهاجس الأمني المقصود هنا، لأن الرجل سيكون طول الوقت تحت حراسة أميركية مشددة حتى أزعم بأنها المرة الأولى التي يقوم فيها أمين الجامعة محتميا «بمظلة» أميركية، لكن ما أعنيه هو المغامرة السياسية، لأن مهمته محاطة بكم من الألغام العميقة التي تصعب إزالتها، حتى أزعم بأن ما يقوم به نوع من المغامرات المستحيلة. وقبل أن اشرح وجه الاستحالة الذي أدّعيه، فإنني ألفت النظر إلى أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ السياسة بالمنطقة التي يتاح فيها للجامعة العربية أن تقوم بدور في بلد تحت الاحتلال الأميركي، أو لواشنطن كلمة في تقرير مصيره، ذلك أن السياسة الأميركية اختارت على الأقل في العقود الثلاثة الأخيرة، إقصاء الجامعة العربية من السياسة في المنطقة، إلا إذا كان لها دور تحدده واشنطن مسبقا، وما حدث في فلسطين والسودان، دليل يؤكد ذلك الادعاء، وجيلنا يذكر جيدا أن هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، أثناء مباحثاته مع الرئيس السادات، حول فض الاشتباك مع الإسرائيليين، الذي تطرق بطبيعة الحال إلى القضية الفلسطينية، طلب منه أمرين محددين، أولهما أن تتحدث مصر عن نفسها ولا تتحدث عن العرب، وهو ما نصحت به في حينه مختلف العواصم العربية المعنية. الأمر الثاني أن ينطلق في حديثه من الحاضر وليس الماضي، بمعنى أنه طلب منه أن يغض الطرف عن التاريخ في المسألة الفلسطينية، لأن ثمة خرائط ووقائع تغيرت على أرض الواقع، ولا مفر من التعامل معها كما هي (لا تنس ان المشروع الصهيوني كله خارج من عباءة التاريخ، الذي هو المسوغ الوحيد للاحتلال والاستيطان الإسرائيلي في فلسطين).

ولان الزيارة تعد عملا غير مسبوق، فلا بد أن يثير انتباهنا تحمس أميركا لها وترحيبها بها، إلى الحد الذي دفع سفيرها في العراق إلى القيام بزيارة أكثر من عاصمة عربية قبل أسابيع لترتيب الأمر، كما دفع القيادة الأميركية إلى التعهد بتأمين رحلة عمرو موسى طول الوقت، ومن السذاجة بمكان أن نعتبر ذلك الحماس تعبيرا عن حفاوة أميركية بالجامعة العربية أو تقديرا لها، وهي التي رأت فيها طرفا مناوئا يجسد أحد أشكال الوحدة العربية وأحد أحلام الانتماء القومي العربي، الأمر الذي يقف حائلا دون انخراط إسرائيل في خريطة المنطقة، التي تفضل لها واشنطن وصف الشرق الأوسط الذي يحتضن إسرائيل وليس العالم العربي الذي يلفظها.

لا تفسير لذلك الحماس الأميركي سوى أنه دال على عمق المأزق الذي تواجهه واشنطن في العراق، والذي أدى إلى تدهور شعبية الرئيس بوش، حتى أن مؤيدي البقاء في العراق أصبحوا لا يتجاوزون 30%، الأمر الذي أدى إلى تزايد الحملة الشعبية الداعية إلى الانسحاب من هناك، وهي الحملة التي وصل صداها إلى صفوف ممثلي الحزب الجمهوري في الكونجرس، ولاجل الخروج من الورطة، فإن أميركا أصبحت مستعدة لان تفعل أي شيء يستر موقفها أو يخفف من وطأة الظروف الضاغطة عليها في العراق، وهي التي استقوت من البداية وأعلنت على لسان وزير دفاعها رونالد رامسفيلد، انها ماضية وحدها إلى الحرب في العراق، وليست بحاجة إلى مساعدة أو عون من أحد، ثم تراجعت خطوة وأقامت «التحالف»، الذي قادته وتولى اسقاط النظام، وتراجعت خطوة أخرى حين رحبت بمشاركة دول إسلامية في الحفاظ على الاستقرار في البلاد، لكن الفكرة لم تنجح، وآخر ما لجأت إليه بعدما ازداد المأزق وتعمقت الورطة هو دعوة الجامعة العربية للمساهمة في تهدئة الوضع، بعدما تخلت الجامعة عن أحد ثوابتها، وقبلت الاعتراف بنظام أقامته سلطة الاحتلال. وحين أقول إنها تخلت عن أحد ثوابتها، فإنني استعيد موقفا للجامعة العربية في عام 61، حين تعرضت الكويت للتهديد من جانب نظام عبد الكريم قاسم في العراق، ولجأ أمير الكويت آنذاك إلى بريطانيا التي أرسلت بعضا من قواتها تنفيذا لمعاهدة الحماية المعقودة بين البلدين، حينذاك اجتمع مجلس الجامعة العربية، وأبدى استعدادا لإرسال قوة حفظ سلام عربية إلى الكويت لحماية حدودها، واشترطت الجامعة آنذاك أن تغادر القوات البريطانية البلاد قبل أن تصل إليها القوات العربية، وهو ما حدث بالفعل.

هل تستطيع الجامعة العربية الآن أن تطلب رحيل القوات الأميركية قبل ان تقوم بدور في العراق، يمكن أن يترجم إلى إرسال قوة سلام عربية تتولى تأمين البلاد؟!.

السؤال ليس واردا، ثم أنه متأخر جدا، لأن النظام الذي أقامه الاحتلال، والذي لا يزال متمسكا ببقاء القوات الأميركية، ومرحبا بقواعدها العسكرية، أصبحت له شرعيته في الخرائط العربية، وجرى استقباله والاعتراف به في الجامعة العربية.

ما الذي سيفعله عمرو موسى اذن في بغداد؟..

هاتفيا اتصلت به وألقيت عليه السؤال، فقال إنه يحمل مبادرة عربية تعالج مختلف عناوين المشهد العراقي، من الاحتلال إلى الإرهاب والإعمار وبناء الدولة وموضوع السنة والشيعة والأكراد وغير ذلك من التمايزات المذهبية والعرقية، كما أن المبادرة تولي أهمية كبيرة لمسألة الوفاق الوطني.. الخ.

أثارت انتباهي في هذا الصدد ورقة قدمت إلى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن حول الدور العربي في العراق، وفضلا عن الأهمية الخاصة للمركز في صناعة القرار الأميركي، فإن الذي أعد الورقة كان واحدا من أهم الباحثين الاستراتيجيين الأميركيين، انتوني كوردزمان، وتاريخ اعدادها هو 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2005.

في هذه الورقة أورد كوردزمان عشر مهام، تمنى أن ينجزها الوجود العربي في العراق، الذي وصفه أنه إسهام «سني» في استقرار الأوضاع هناك.

هذه المهام هي: وجود دائم للأمة العربية في بغداد، من خلال التمثيل الدبلوماسي لمختلف الدول الذي اقترح له أن يتم في منطقة «خضراء» (تحت الحماية الأميركية بطبيعة الحال)، واعتبر أن ذلك الوجود على الأرض سيوفر فرصة للحوار المستمر مع العراقيين حول مختلف الشؤون: حل مشكلة ديون العراق المستحقة للدول المجاورة، بما يساعد على توفير الموارد لإعمار البلاد ـ توفير المساعدات اللازمة لإعانة العراق على النهوض بصناعة النفط ـ إقناع أهل السنّة بإمكانية النهوض بالمحافظات التي يعيشون فيها إذا توقفت عمليات المقاومة ـ وإزالة أسباب التوتر والحساسية بين السنّة والشيعة ـ إقناع السوريين والإيرانيين بضرورة مساهمتهم في استقرار العراق وإبعاد شبح الحرب الأهلية فيه ـ تنبيه الجميع إلى أن انخراط أعداد كبيرة من الشباب في عمليات المقاومة يمكن أن يشكل تهديدا ليس للعراق فحسب، لكن لدول المنطقة كلها ـ العمل مع الحكومة العراقية لإقناع إيران بخطورة العواقب الوخيمة التي تترتب على تقسيم العراق أو دفعه إلى مربع التطرف ـ التعامل مع الملف الكردي ومع تركيا بقدر من التفهم الذي ينطلق من احترام الخصوصية، حتى لا تتفاقم المشكلة وتتحول المسألة الكردية إلى سبب إضافي للتوتر في المنطقة ـ تشجيع الدول العربية على احتزاء النموذج الأردني والخليجي في تقديم العون للعراقيين في مجالات تدريب الشرطة وتوفير الاحتياجات اللازمة لهم لإنجاح مهماتهم على هذا الصعيد، ومن شأن ذلك التشجيع ان يساعد على انخراط السنّة والأكراد في المساعدة على استقرار الأمن بالبلاد.

لقد تجاهلت ورقة كوردزمان المشكلة الأساسية المتمثلة في الاحتلال، بل بدت وكأنها تسعى في نهاية المطاف إلى توفير الأجواء المناسبة لاستمراره في هدوء، وتحويله إلى احتلال «ناعم»، الأمر الذي يعني أنه أراد في حقيقة الأمر أن يحل مشكلة البقاء الأميركي، بأكثر مما شغل باستقرار العراق، ونقطة الضعف في الورقة هي ذاتها العقبة الأساسية التي تواجه مهمة عمرو موسى، لأنه لن يستطيع أن يقترب من ملف الاحتلال بأية صورة، حتى على صعيد تحديد موعد لرحيل قواته في المستقبل، ذلك أن الذين دعوه ورحبوا به وتولوا حمايته وضمنوا له العودة سالما بإذن الله، هم الأميركيون. ومن ثم فأبعد ما يكون عن البال أن يخاطبهم في أمر رحيلهم، واحسب انهم ما كانوا ليوافقوا على زيارته أصلا، إلا إذا كانوا قد اطمأنوا إلى أنه سيغض الطرف عن ذلك الجانب ولن يتوقف عنده طويلا، وكما انه لن يحقق إنجازا يذكر في مسألة الاحتلال، فلن يكون حظه أفضل في صدد ملف الشيعة والأكراد، حيث من الواضح أن قيادات الطرفين ليست على استعداد لتقديم أي تنازل عن المكاسب التي حققوها على الأرض، وفي وضع هذا شأنه، فإن موقف أهل السنّة لن يتغير، خصوصا إذا أدركوا أن مهمة الأمين العام ستنتهي إلى محاولة الضغط عليهم وحثهم على القبول بما يجري، مقابل وعود مستقبلية تظل في مهب الريح، وغني عن البيان ان المبادرة العراقية لن تجد ما يبرر وقف عملياتها، ناهيك عن أن الذين يقومون بالعمليات الإرهابية ضد المدنيين لن يغيروا من أساليبهم أو مقاصدهم. عمليا لن يستطيع عمرو موسى أن يفعل شيئا، غاية ما هناك أن تحاول الإدارة الأميركية أن تستثمر زيارته لاقناع الرأي العام الداخلي بأن العرب يقفون معها في نفس الخندق، وأنهم ليسوا وحدهم في الورطة.