الخروج العربى من الصندوق..!

TT

قادتنى الأقدار للتواجد في الولايات المتحدة الأميركية للتدريس وإلقاء المحاضرات، والمشاركة في عدد من الندوات والحلقات النقاشية التي دارت بين واشنطن العاصمة ومدينة بوسطون المعروفة بجامعاتها العريقة. وما كنت أقوم به ليس مهما، ولكن الأكثر أهمية كان تلك التجارب الفكرية التي ترد من العالم الأميركي أو الغربي، والتي بدورها تثير تساؤلات كثيرة عن التجربة العربية. وواحدة من هذه التجارب جاءت من أحاديث مع مثقفين وأكاديميين أميركيين كان كثير منهم يسأل عما إذا كنت قرأت تلك المحاضرة المهمة التي ألقاها ستيف جوبز رئيس مجلس إدارة شركة أبل للكومبيوتر، وشركة بكسر للرسوم المتحركة في جامعة ستانفورد في 12 يونيو من العام الجاري. ولما كنت لم أفعل، فقد أتيت بالمحاضرة وقرأتها بإمعان، ووجدتها بالفعل تشكل نقلة كيفية في نوعية التفكير وطريقته والتي سوف نأتي لها بعد الفراغ من الفكرة التي نزلت على رأسي مثل المطرقة، والتي تتعلق مباشرة بعالمنا العربي.

ففيما أعلم، وقد أكون جاهلا تماما، فلا يوجد تقليد عربي يقول بدعوة مخترع ناجح ورجل أعمال ناجح مثل ستيف جوبز لكي يلقي بمحاضرة عن تجربته في النجاح في جامعة عربية. وربما لم يوجد لدينا بعد مخترع غيّر حياة الإنسانية مثلما فعل الرجل الذي اخترع الكومبيوتر، أو ذلك الذي أقام شركة أبل أو مايكروسوفت أو أخيرا جوجل، ولكن من المؤكد أن لدينا عددا من رجال الأعمال الناجحين. ولم أسمع شخصيا أن جامعة عربية دعت صالح كامل أو ناصر الخرافي أو أنسي سويرس أو رفيق الحريري _ قبل وفاته بالطبع _ لكي يقول كلمته، ليس فقط في طريقة جمع الملايين من الدولارات والريالات والجنيهات، ولكن الأهم في كيفية توظيفها وتوظيف الآخرين معها لإنتاج سلعة ما، أو توفير خدمة ما تدر المزيد من الملايين الأخرى. وإذا كان رجال الأعمال هؤلاء لا يرتفعون إلى مصاف ستيف جوبز

وبيل جيتس، فإن المؤكد أن جامعات القاهرة والرياض والكويت وما بين الماء والماء لا ترتقي إلى مستوى جامعة ستافورد التي القى فيها ستيف جوبز خطابه التاريخي، وهو الرجل الذي لم يحصل على تعليم جامعى على الإطلاق !.

وما قاله ستيف جوبز في جامعة ستانفورد ـ وهي بمثابة جامعة هارفارد في الغرب الأميركي ـ بالغ الأهمية، ولكن ما هو أكثر أهمية هو أن المجتمع يمجد النجاح ويعظمه ويكرمه، ومعه يمجد الغني ويعظمه ويكرمه. وفي البلاد العربية فإن النجاح والغنى ليسا موضوعا مشروعا للحسد فقط، بل انهما يحملان نوعا من الاستنكار والإنكار الفكري والوجداني، فالنجاح مختلط دوما بالانتهازية والغنى هو موضوع للفساد، وكلاهما لا يستحق الحديث أو التكريم. والجامعات العربية تتحدث عن الفقر والخروج منه والمساواة معه، ولكنها لا تتحدث عن الغنى؛ وتتحدث عن الضعف وليس القوة، وتكرم الشعراء والكتاب والجالسين على الأرصفة السياسية، ولكنها لا تنظر أبدا لمن يصنعون الثروة التي يعيش بها وعليها كل هؤلاء. وفي الفكر العربي تبدو الفكرة كلها ممجوجة لان الأكاديميين العرب في جامعاتهم المحدودة، تصوروا أنهم طالما كانوا بيت الحكمة، فهم ليسوا في حاجة لضيوف جدد على البيت، فربما كان في الأمر في النهاية مفسدة بالغواية أو بالمال أو بالسلطان. ولكن الأمر يحدث في أميركا، ويستطيع بل جيتس وستيف جوبز أن يخرجا من الجامعة دون شهادة على الإطلاق، ثم بعد ذلك يكون لديهم ما يكفي من الحكمة لإلقائها على أعظم الجامعات. وكانت طريقة رئيس مجلس إدارة شركة أبل بسيطة للغاية، وهي أن يقص على سامعيه ثلاث قصص، وكان عنوان الأولى فن وصل النقاط. وفي المعنى العام فإن وصل أو ربط النقاط ببعضها يعنى القدرة على ربط ووصل النقاط المهمة في موضوع ما أو ربط القضايا ببعضها، أو وصل نقاط المنحنى على رسم بياني لتبيان الاتجاه. ولكن ستيف جوبز لم يكن يعني أيا مما هو شائع، وإنما كان يعني حرفيا ربط نقاط فعلية ببعضها، ووصل إلى ذلك من خلال أحداث شخصية لم يجد صعوبة في قولها. فقد ولد سفاحا لامرأة وجدت أنها لن تستطيع الإنفاق عليه فمنحته لوكالة للتبني، واشترطت عليها أن الأسرة التي سوف تتبنى ابنها عليها أن تلحقه بالجامعة. وبالفعل وجدت الوكالة طلب الأم البيولوجية ممثلة في محام وزوجته، وكلاهما كانا على استعداد لإلحاق الطفل غير المعروف الأب ولا الاسم بالتعليم العالي، ولكن ـ ويا للحظ العثر أو السعيد ـ فقد كان تفضيل الأسرة هو تبني أنثى. وهكذا صار صاحبنا من نصيب أسرة عاملة فقيرة وعدت بأنها سوف تلحقه بالجامعة، وهو ما فعلته عندما وصل ستيف جوبز ـ كما صار اسمه ـ إلى سن السابعة عشرة. ولكن رجلنا بعد أن تحققت رغبة أمه البيولوجية ـ وربما أمه بالتبني أيضا ـ وجد نفسه غير قادر على الاستمرار في الجامعة فتركها بعد ستة اشهر فقط. ولكن وبينما يبحث عن عمل أو يتخذ قرارا في مستقبله، فقد قرر أن يدخل في عدد من المواد الدراسية التي يحبها بالفعل، ودون قيود، فكان أن حضر دروسا في علم الخطوط أي العلم الذي يعلمنا بالعربية فنون خطوط النسخ والرقعة والثلث وغيرها وكلها تقوم على التاريخ والفن والجمال، ولكن التدريب عليها وفهمها يتطلب وصل النقاط حتى تحصل على الشكل المطلوب. هذا العلم وذاك التدريب على ربط النقاط كان هو الأساس لما تم تنفيذه بعد ذلك في شركة أبل للكومبيوتر وأعطى جهاز الكومبيوتر ـ ماكنتوش ـ عظمته التي قام عليها خلال الثمانينات والتسعينات.

مثل هذه القصص لا نعرفها في العالم العربي، وإذا عرفناها لا نحكيها حتى ولو لم يكن فيها بالضرورة ما يشين عند المولد أو عند البلوغ. فالفصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة يوجد بينهما حائط هائل من الخجل والعار، وفي الأغلب الأعم فإن جميع الناس مطالبين بأن يكونوا جزءا من تجارب سابقة للأهل في العمل وفي التعليم، وربما يريد الأهل لأبنائهم أن يكونوا أحسن قليلا أو كثيرا، ولكنهم في النهاية يريدونهم داخل الصندوق المقرر للعادات والتقاليد والدراسة في المدارس والجامعات، أما الخارجون على الصندوق فإنهم يمتنعون ويظلون أبدا خارج الصندوق في صفوف الزنادقة والخارجين على الناموس العام.

ولكن هذا الخروج هو ما يميز الأمم الحية التي تكون الحرية والغنى والقوة والنجاح معيارها، وهو الذي أوصل ستيف جوبز إلى جامعة ستانفورد لكي يقول في قصته الثانية عن «الحب والفقدان» أن طرده من شركة أبل كومبيوتر التي أسسها كان أعظم القرارات في حياته لأنها أتاحت له العمل من جديد لكى يطور جهاز الكومبيوتر وربطه مع الجرافيك والرسوم المتحركة. ولكي يقول في قصته الثالثة عن «الموت» الذي اقترب منه مع مرضه بالسرطان أنه طالما كان الموت مكتوبا علينا في النهاية، فلماذا لا تكون قراراتنا خلال اليوم متناسبة مع هذه الحقيقة. فمتى نخرج عن الصندوق أيها السادة أو على الأقل متى يكون للخارجين عن الصندوق مكان بيننا؟!.