العراق: التثالب بين وزارتي علاوي والجعفري

TT

ما يجمع بين رئيسي وزراء العراق، بعد سقوط دولة البعث، اياد علاوي وإبراهيم الجعفري: المذهب، والقومية، والمهنة، والموقف المشترك السابق في المعارضة، بعد تخلي علاوي عن البعث في الثمانينيات. فهما شيعيان، وطبيبان، ولم يتفاوتا في الولادة والتخرج من الطب إلا بعام واحد. يضاف إلى ذلك زمالتهما في مجلس الحكم. وما يفرق بينهما أن علاوي علماني متكيف مع الليبرالية، متسع الصلات داخل العراق، لم يكن بعيداً عن وجهاء التكوينات الفاعلة في السياسة العراقية: الكُرد والشيعة والسُنَّة.

ومتراضٍ مع المحيط العربي، وحتى إيران، التي حسب روايته، اعتبرت توليه رئاسة الوزارة خطاً أحمر، يمكنه التفاهم معها. حققت قائمته شعبية إلى حد ما، وربما عُدت هي الفائز الأول من بين الأحزاب الأخرى، فرغم حداثتها وعدم دعمها بفتوى مرجعيات دينية، مثل قائمة الائتلاف الشيعي، وليس عليها إجماع قومي مثل قائمة الاتحاد الكردستانية، مع كل ذلك حصلت على أربعين مقعداً. وكان لها أن تأتي بأكثر من هذا لو أحسن علاوي التنسيق مع القوى التي نزلت فرادى إلى ساحة الانتخاب. فهناك الكثير من العراقيين مَنْ لا يرغب في الانضواء خارج عنوان الهوية العراقية.

أما إبراهيم الجعفري فالظرف السياسي المضلل بالحس الطائفي فعل فعله في تلكؤ أدائه الحكومي، وتناقص حضوره بين العراقيين عما كان عليه قبل السلطة، ولم تعد ألفاظه المنتقاة تغري المسامع، فالناس تنتظر ماء وكهرباء، كشف جرائم قتل غامضة، لا تحايا وتعهدات. ورغم محاولاته في الخروج من طبع المعارضة والحزبية الضيقة إلا أنه ظل مشدوداً إلى تلك الأجواء. وكان عليه تقدير الظرف الحرج، والبعد عما يثير ولو ظاهرياً الحس المذهبي. فهناك مَنْ نظر إلى تشبثه بلقبه الحزبي «إبراهيم الجعفري كان ناشطاً شيعياً في القرن الثاني الهجري» أنه ظهور طائفي.

ليس الحرج في التسمية، فهناك أسر تكريتية تعرف بآل الجعفري، والجعيفر (تصغير جعفر) محلة سُنَّية من محلات كرخ بغداد، بعد تبدل هوية المحلات عنها في العصر العباسي، إذ كان الكرخ شيعياً حتى دخول المغول وما بعدهم. والجعفري اسم لقصر عباسي بسامراء، شهد اغتيال الخليفة المتوكل. ومعلوم أن الإشارة إلى المذهب الإمامي بالجعفري كان بادرة من ملك إيران نادر شاه عندما حاول تصفية الاختلاف المذهبي، وإقناع العثمانيين في جعل التشيع مذهباً رسمياً، يعرف باسم صاحبه جعفر الصادق أسوة بالمذاهب الأربعة.

كذلك لم تثر تسمية المدارس الأهلية المدنية بالجعفرية (تأسست 1908) حفيظة أحد، وظهر ما يقابلها من مدارس سُنَّية باسم التفيض. وكلا المؤسستين لا تظهر أي شيء مذهبي في مناهجها، لذا ظلت، ومازالت بعيدة عن تلك الأجواء. لكن، أُخذ لقب الجعفري بهذه الحساسية نتيجة حراجة الظرف وشدة العزف على الوتر الطائفي. اخذ الجعفري في بداية سقوط النظام يقدم نفسه بإبراهيم اشيقر، وآل اشيقر كما نعلم كربلائيون أُصلاء. أقول لو استغنى الدكتور إبراهيم عن هذا اللقب، فمن حق العراقيين بكل تلاوينهم عليه، وهو رئيس حكومتهم، أن يعرفوه حسب قيد النفوس الرسمي.

ظلت الوزارتان، العلاوية والجعفرية، مشدودة بكل مؤسساتهما إلى روح المعارضة، التي تتسم عادة بخطاب خاص، خطاب متشنج غير مسؤول، يحاول بكل السبل إبراز عيوب السلطة التي يعارضها، وله تبرير الكذب والمبالغة بالدعاية ضد الخصم، وهو بطبيعة الحال انجرار إلى خطاب السلطة نفسها. فإثناء حكومة علاوي أخذ وزير الدفاع ووزير الداخلية، ثلب الأحزاب والقوى المحتملة الفوز في الانتخابات، واستباق الأحداث ووصفها بالطائفية وموالاة الأجنبي، والتشاتم العلني مع مؤسسة أحمد الجلبي والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والتهديد بنشر الغسيل.

وبالمقابل ما أن تربعت وزارة إبراهيم الجعفري على السلطة إلا وأخذت بالدعاية ضد سلفها بكل قوة، بعد تمنع من ضم جماعة علاوي إلى السلطة، مثلما أرادت قائمة الاتحاد الكردستانية. مع أن مصلحة العراق لا تتحقق في ضم تلك الجماعة فقط، بل بحاجة إلى حكومة ائتلاف وطني واسعة، ذلك لدقة الظرف السياسي والاجتماعي.

وكان أول نشاط الوزارة الجعفرية إبراز نواقص الوزارة السابقة، والتعامل معها بخلفية التعامل مع سلطة البعث. اُتهمت بالبعثية، وطرد موظفوها من الدوائر الحساسة، وأخليت دوائر مجلس الوزراء إلا من موالين للحكومة الجديدة، وحزب رئيس الوزراء بأضيق حلقاته. ظلت الحزبية طابعاً للوزارة الجديدة، تظهر جلية حتى في لقاءات رئيس الوزراء عند زيارته إلى خارج العراق.

بمعنى الأمر باق على ما هو عليه في المعارضة، ولم يرتق سياسيو العراق وهم في السلطة، على طريقة أدائهم وهم في المعارضة، وكأنهم بحاجة إلى دورات تعليم مكثفة، تعلمهم فنون السلطة وفنون المعارضة البرلمانية، أقولها وأحاذر أن يصفني وزير الداخلية باقر صولاغ بالبداوة، ويستكثر عليَّ شراكتي إياه بأرومة حامورابي.

ما حدث أخيرا من إعلان اتهام وزارء علاوي بالسرقات والرشاوى قد لا يتعدى تلك الطريقة، فمعلوم ضمت الوزارة السابقة خليطاً من الكتل السياسية بالعراق، فلماذا يُثلب ويشهر بوزراء دون آخرين، هم اليوم متألقون في وزارة الجعفري؟ وماذا عن وزراء فترة السفير بريمر؟ كل هذا ورد في دفاع وزارة علاوي عن نفسها. أخذ التشهير طريقه إلى وسائل الإعلام قبل التحقيق.

كانت وزارة علاوي وزارة تأسيس، وضعت اللبنات لإعادة الجهاز الإداري، وبناء القوى الأمنية، وقادت معارك ضارية ضد الإرهاب بالفلوجة وغيرها من البلدات، وحاولت كسر شوكة التمرد المضر بالنجف ومدينة الثورة، بينما أعلت وزارة الجعفري منزلة المتورطين بسفك أول دم من دماء المعارضين للنظام السابق، وهو السيد عبد المجيد الخوئي.

أقول للوزارتين عيوبهما، ببلاد لا يحسد رئيس ووزير على منصبه. إلا أن التثالب بهذه الطريقة خيب آمال الرأي العالمي قبل الرأي العراقي فيهما. قادني تثالب الوزارتين إلى مراجعة سِفر أبي حيان التوحيدي (ت 414هـ) «مثالب الوزيرين»، واقتباس عنوان المقال، ففي هذا الكتاب ترى مستوى حسد المؤلف وضيقه، كيف يكون نساخاً بينما لابني العميد وعباد الوزارة! وأرجو أن لا يكون التثالب للاحتفاظ بدست الوزارة في الانتخابات القادمة!