محكمة!

TT

فقدت محاكمة صدام حسين جدواها. لقد تأخر كل شيء. كان يجب ان تجري يوم كانت ذاكرة العراقيين مليئة بصور الذل والمهانة ومعاقي الحروب وعشرات آلاف من ضحاياها. الآن تأخر كل شيء. لقد محا «الزرقاوي» من العقول والأفئدة كل الفظاعات الماضية. وأنسى الفقر الجديد العراقيين كل الفقر الماضي. وفي السابق كان العراقيون الأبرياء يموتون في السجون او في بيوتهم، أما الآن فمقاومة الاحتلال تقتضي أن يموت أبرياء العراق وأطفاله في الشوارع والساحات والفلاة. وأمام جميع آلات التصوير.

ستبدو الأسئلة مضحكة في محاكمة صدام حسين، عن مذابح ذهب فيها 200 انسان. وسوف تبدو الأسئلة عن الثروات التي جمعها ولداه سخيفة وفق النظرية النسبية، وما جمعه بعض اهل الحريات الجدد من أموال الدولة. ولن يكون في المحكمة شيء سوى خطابيات صدام حسين في القومية وأبويته وتحنانه ومناداته الحراس بندائه المفضل: يا ولدي! وقد يحرج الرئيس العراقي السابق المحاكمة والعالم اذا ما طلب رؤية أحفاده، أبناء حسين كامل المجيد وشقيقه صدام.

عامان في اعداد محاكمة الرجل الذي بسببه قامت الحرب. وقد قامت خلالهما ذاكرة اخرى في العراق، وقام عراق آخر في بغداد، واصبح صدام حسين مثل عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، شيئاً من تاريخ العراق الدموي، القائم على تناوب السلطة بالعنف والقتل و«وجبات» الاعدام وغيرها من المصطلحات التي لم تعرف في اي ثقافة قمعية اخرى. كل ما في المحاكمة وحولها عمل مسرحي. المحامون الأردنيون الذين لم نعد نسمع عنهم، عمل مسرحي، لأن احداً منهم لا يملك ملفاً او يستطيع الوصول الى المحكمة او مقابلة «موكله». ومحامو الاتهام مسرحية، لأنهم عملوا في ظروف بائسة ورواتب بائسة وإمكانات تحقيق بدائية مضحكة. وإذا كان موعد المحاكمة قد حدد بعد اقرار الدستور فهو ايضاً موعد بائس تحف به الدماء ويسبقه مقتل 90 عراقياً في الأنبار برصاص الأميركيين.

هذه هي قمة المأساة الإنسانية: ان يصل العراق الى وقت تصبح فيه مرحلة صدام حسين مجرد صفحة يطويها الخراب الحالي بعنفه اللامحدود ونزعته العرقية المعلنة ونزاعه الطائفي الدامي. وغداً بعد ان تستمع المحكمة الى خطب صدام حسين في الشعور القومي والعدالة الاجتماعية وحرية الفرد وتعلق الأب بشعبه والجد بأحفاده، بعدها اتمنى ان تتخذ في حقه حكماً حضارياً انسانياً. انا مع الدكتور سعد بن طفلة في ذلك. يجب ان يعيش صدام حسين لكي يسمع مدى الحياة، الأصوات التي تنادي قَتَلَتَها، والانين الذي ينادي معذبيه.