محاكمة صدام .. العيب في القضية لا في المحكمة!

TT

دخل يوم التاسع عشر من اكتوبر (تشرين الاول) التاريخ باعتباره واحدا من أيام العراق المجيدة ، فصدام حسين الذي وضع الشعب العراقي وراء القضبان خمسة وثلاثين عاما وقف هو في هذا اليوم وراء القضبان، مع الفارق الهائل، فصدام الذي لم يعط لضحاياه أي فرصة للدفاع عن انفسهم وردّ التهم الموجهة اليهم، بل لم يمكّن الكثيرين منهم حتى من معرفة «الجرائم» التي ارتكبوها، حظي هو في المحكمة الجنائية الخاصة بكل الحقوق المكفولة في القوانين والشرائع والأعراف في مثل هذه الحالة ، بل انه تمتّع ايضا بحق الإعلان بالصوت العالي والصورة الملونة عن عدم اعترافه بالمحكمة وقضاتها.

يستحق يوم مثول صدام امام المحكمة ان يُرّسم يوماً وطنياً للعدالة التي كان افتقادها التام في عهد حكم البعث في العراق السبب في تحوُّل صدام الى طاغية لا نظير له وفي مواجهة الشعب العراقي محناً وكوارثَ مهولة لا مثيل لها في تاريخ العراق الطويل بأكمله. ولذا سيكون من المناسب ان تعلن الجمعية الوطنية العراقية التاسع عشر من اكتوبر (تشرين الاول) يوما للعدل او العدالة يجري الاحتفال به سنويا لإحياء ذكرى مئات الآلاف من ضحايا مجازر الاعدام والمقابر الجماعية والحروب والترحيل والتهجير والسجن والتعذيب وفقدان الوظائف ومصادر الرزق، ولترسيخ مبادئ العدالة وحقوق الانسان في الاذهان والنفوس وتعزيز تطبيقاتها في ميادين الحياة المختلفة، ولمراجعة اداء الحكام الجدد ايضا، ضمانا لعدم اعادة انتاج الطغيان والدكتاتورية في العراق.

لا يمنع هذا من الاشارة الى خطأ ارتكبته الحكومة العراقية الحالية، وما اكثر اخطاؤها، وذلك بممارسة الضغط لجعل قضية مجزرة الدجيل اول قضية يحاكم عنها صدام واركان نظامه. بالطبع كانت هناك دوافع طائفية وحزبية وراء ذلك ، فالحكومة ـ بالاحرى الكتلة النافذة فيها : الشيعية ـ استعجلت إجراء المحاكمة مثلما استعجلت إجراء الانتخابات السابقة وكتابة مسودة الدستور والاستفتاء عليها ، سعيا هذه المرة ايضا لتحقيق مكاسب سياسية قبل الانتخابات التشريعية المقررة قبل نهاية العام الحالي، خصوصا أنها ادركت ان شعبيتها ومصداقيتها تراجعتا كثيرا في الاشهر الاخيرة. قضية الدجيل، التي كل الضحايا فيها شيعة، لم تكن هي الانسب لبدء محاكمة صدام، والدليل انها اثارت حساسية طائفية في المناطق السنية واتاحت لصدام ان يعلن في المحكمة انه لا يعترف بها ولا بقضاتها ويصر على انه الرئيس «الشرعي» للعراق.

في ظني ان القضية الانسب التي كان يمكن محاكمة صدام عنها اولا هي تلك التي تتعلق بأول مجزرة ارتكبها صدام بعد انتزاعه كرسي الرئاسة من سلفه احمد حسن البكر في يوليو (تموز) 1979. فقد اعدم صدام نحو ثلاثين من رفاقه من قادة حزب البعث وكوادره العليا لانهم عارضوا الطريقة التي استولى فيها صدام على منصب الرئيس، بعدما دبر لهم تهمة «المؤامرة» المفبركة مع سورية.

لو كانت هذه القضية التي ما زال الكثير من شهودها وضحاياها احياء وتتوفر لها الوثائق الورقية والفلمية، التي تثبتها بالصوت والصورة ايضا، هي اول ما يحاكم عنه صدام حسين وكبار مساعديه لانتفت أي شبهة سياسية او طائفية للمحاكمة التي بدأت الاربعاء الماضي، ولألقم صدام حجرا وامتنع عن التشكيك في شرعية المحكمة والقائمين عليها وعن التمسك باعلان انه الرئيس «الشرعي» للعراق. فهذه القضية كانت ستوضح للجميع «الشرعية» التي اصبح فيها صدام رئيسا للعراق، وكانت ستحرج هؤلاء الذين لم يخفوا تعاطفهم مع صدام يوم المحاكمة إنْ في العراق او في الخارج.

ضيق الافق الطائفي وقصر النظر السياسي هما، بالطبع، ما جعلا الكتلة الشيعية في الحكومة العراقية تضغط لتقديم قضية مجزرة الدجيل على قضية مجزرة البعثيين فترتكب خطأ آخر يضاف الى اخطائها الكثيرة.

[email protected]