السياسة للسياسيين لا للمخابرات

TT

أخيراً، صدر التقرير. فما الجديد فيه. لا شيء. اغتيال مشهود وجريمة مدوية. مجموعة من المسؤولين ذوي الرتب، يتآمرون لقتل أبرز سياسي في لبنان وإزاحته، فإذا اغتياله يؤدي الى عكس ما ارادوا تماماً: غادر الجيش السوري لبنان. وتحولت مجموعة الحريري النيابية من كتلة رئيسة الى اكثرية مطلقة، وتحوَّل اصحاب السلطة الحقيقيون الى متهمين وسجناء ومعزولين. هل كان اغتيال الحريري ضرورياً؟ ربما كان كذلك لسبب وحيد، اي لكونه نموذجاً على عدمية ثقافة الاغتيال في الشرق العربي. ولأنه إثبات على الفارق الهائل بين صناعة السياسة وصناعة الأمن. اي بين واحدة تقوم على الحوار والتفاهم، وأخرى قائمة على الإلغاء والسجون والصمت وتدجين الحالمين بالحرية.

وعندما يستسهل فريق الجريمة الكبرى، أي الاغتيال، يصبح كل شيء آخر بسيطاً او مبسطاً. كالسطو على مال الغير وبث الفساد المادي وتحويل ضعاف النفوس في المجتمع الى أجراء وخدم وعملاء صغار، لقاء مكافآت تافهة او ثمينة. وتميل الثقافة الأمنية دائماً الى إقامة طبقة طيعة من الأزلام وخواة الكفاءة وإلغاء الفئات المبدعة.

الفساد الذي دب في المؤسسات اللبنانية، وبينها القضاء، هو الذي توصل الى إغراء بعض ضباط الجيش في التدرج من جريمة الرشوة الى جريمة القتل. وقبل انتشار هذا الوباء لم يكن ذلك ممكنا. لكن الكثير من السلطة غير الشرعية والكثير من المال الفاسد، حوَّل بعض النفوس من الانضباط العسكري الى الارتخاء اللاأخلاقي. وعندما تفسد نفس لا تعود هناك حدود لانزلاقها.

لذلك فاحت روائح الفضائح الكبرى في بيروت من دون أن يكترث أحد من أصحابها. وشملت السرقة في «بنك المدينة» أسماء كثيرة.

كانت العلاقة اللبنانية ـ السورية قبل اغتيال الرئيس الحريري تتجه الى تكامل نادر بين الدول. وقد دمر الاغتيال كل المراحل. والآن يتحدث رئيس وزراء لبنان عن «ترسيم الحدود» وإقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين. وعندما يقول رئيس وزراء سورية ناجي العطري انه رفض ثلاث مرات الردّ على فؤاد السنيورة، فهو يعكس تأزماً على صعيد الشعبين ايضاً، ربما للمرة الاولى في تاريخهما. فلم تحدث أزمة بين الشقيقتين ما أحدثته الأشهر الأخيرة، بسبب تسليم السياسة الى ضباط المخابرات، والديبلوماسية الى المخبرين عندهما. العلاقة اللبنانية ـ السورية في حاجة الى محبين وذوي نوايا حسنة وأهل تواضع، يعيدونها الى سياقها وحقيقتها، وليس الى رجال لا يعرفون معنى اللياقات وكرامة الآخرين.