ألف طريق إلى الجنة.. فلماذا تختزل في الجهاد ؟

TT

هذه رسالة من قارئ مسيحي عاقل فاضل، يعلق فيها على مقال كتبته عن (وجوب الشكر الصادق) لغير المسلمين إذا عملوا عملا أو وقفوا موقفا أو قالوا كلاما يستوجب الشكر.. وقد أبدى بهجته بأن يكون في الاسلام هذا القدر من العدل والتسامح والنبل.. ثم طرح إشكالا (وهذا هو موضع الشاهد وموضوع المقال الماثل) فقال: «لدي اشكالية يصعب أن استوعبها وهي موضوع بلوغ الجنة، فقد علموني في التعليم المسيحي ان علينا ان نصلي ونصوم ونعمل الخير، وألا نسرق ولا نقتل ولا نزني، وان نحب أعداءنا، وان ذلك هو طريق الفوز بالجنة، فكيف يمكن أن يكون قتل الناس الأبرياء: أقصر الطرق للوصول الى الجنة»؟.. وهو يشير بذلك ـ بداهة ـ إلى أعمال العنف التي يمارسها مسلمون: مدعين بأنها (جهاد في سبيل الله)، وبأن هذا الجهاد هو أقرب الطرق، وأسرع المعارج إلى الجنة.

ونكتب سطورا مختصرة عن (مفهوم) الجهاد، ثم ننفذ الى صلب الموضوع: مفردين له المساحة الأوفى من المقال: ابتغاء البسط والإشباع.. موضوع: ان للجنة (ألف طريق) ويزيد.

إن الجهاد في الإسلام (حق).. ولن نعتذر عنه لأن الحق لا يعتذر عنه.. هو حق لأنه (دفاع) مشروع عن النفس والدين والوطن وسائر مقومات الشعب والأمة والدولة.. وهو بهذا المفهوم (حق يتساوى فيه المسلمون مع سائر الأمم) ـ فبناء على هذا الحق القانوني والسياسي العام: تنص دساتير الدول كافة على ان رأس الدولة يجب ان يكون في مقدمة وظائفه ومسؤولياته: الدفاع عن الدولة التي يرأسها ضد كل عدوان عليها.. الآخرون يسمون هذا الحق (دفاعا).. لهم ذلك وهم أحرار في التسمية.. أما الاسلام فيسميه (جهادا).. وله ذلك ايضا بموجب (حق التسميات)، وكما ان لكل أمة: شرعتها ومنهاجها، فلكل أمة ـ كذلك: مفرداتها ومصطلحاتها.. هذه واحدة والأخرى: ان مطلق عنف يستحيل أن يكون جهادا، وان انتحل اسم الجهاد. ذلك ان للجهاد في الاسلام شروطا لا يصح إلا بها. كما أن للطهارة والصلاة والبيوع والأنكحة شروطا لا تصح إلا بها.. ومن هذه الشروط: أن يعلنه الحاكم الشرعي المقتدر. وأن يتجنب قتل الأبرياء.. وألا يكون حرب عدوان.. والا يكون ثأرا جاهليا.. وألا يكون علوا في الأرض ولا فسادا.. وألا يكون مبادأة بنقض العهود والمواثيق.. وألا يكون أمنية وهواية للقاء العدو، إذ الأصل هو السلام بين الأمم.

وبالنفاذ إلى صميم موضوع المقال، ينبغي ان يستقر في العقول والضمائر والأفئدة ـ بادئ ذي بدء ـ: ان الجهاد ـ بمفهومه الصحيح ـ ليس هو (الطريق الوحيد الى الجنة).. فالحقيقة المنهجية في الإسلام تؤكد ـ بمئات الأدلة والبراهين ـ أن (للجنة ألف طريق)، بل أكثر من ذلك.

وهذا اجمال يتطلب تفصيلا موثقا بالأدلة منالكتاب والسنة:

أولا: من طرق الجنة في القرآن:

1 ـ طريق المسارعة الى مغفرة الله بمباشرة مؤهلاتها: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. الذي ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. والذين فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين».

2 ـ طريق إقام الصلاة وايتاء الزكاة والإيمان بالرسل والإنفاق في سبيل الله: «لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأمنتهم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار».

3 ـ طريق معرفة مقام الله وتعظيمه وتمجيده وتقديسه وتحرير النفس من أغلال الهوى: «وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى».

4 ـ طريق التسامح والصفح والتعامل الرفيع مع الناس: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم».. والحظ العظيم هو الجنة.

ثانياً: طرق الجنة في السنة :

1 ـ طريق سقيا كلب عطشان. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فاذا كلب يلهث يأكل الثرى (التراب اللين) من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم امسكه بفيه، حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، فادخله الجنة».. وفي رواية اخرى: ان بغيا فعلت مثل ذلك فغفر لها به!!

2 ـ طريق (الغرس العام) النفع العام للكائنات جميعا. قال النبي: لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه انسان ولا دابة ولا طير الا كان له صدقة الى يوم القيامة».

3 ـ طريق الخصال الكثيرة المتنوعة. قال النبي: «اربعون خصلة اعلاها منيمة العنز، ما من عامل يعمل بخصله منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها الا ادخله الله بها الجنة».. ومنيمة العنز: ان يعطي انسانا انسان: عنزا ليستفيد من لبنها ثم يردها اليه.

4 ـ طريق تنظيف (البيئة) من كل ما يشوهها ويلوثها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أ ـ «رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين».

ب ـ «عرضت عليَّ اعمال امتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن اعمالها الاذى يماط عن الطريق ووجدته في مساوئ اعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن»: النخاعة هي النخامة.

5 ـ طريق ذكر الله جل ثناؤه.. قال النبي:

أ ـ «من قال سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة».

ب ـ «الا ادلك على كنز من كنوز الجنة» فقلت: بلى. قال: «لا حول ولا قوة الا بالله».

ج ـ «الا انبئكم بخير اعمالكم وازكاها عند مليككم وارفعها في درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والفضة وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا اعناقهم ويضربوا اعناقكم» قالوا: بلى. قال «ذكر الله».

6 ـ طريق طلب العلم.. قال رسول الله: «ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله به طريقا الى الجنة».

7 ـ طريق الكدح باليد، واعانة الملهوف والامر بالخير وكف اذى الذات عن الناس.. عن ابي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «على كل مسلم صدقة». قال: أرأيت ان لم يجد. قال: «يعمل بيده فينفع نفسه وليتصدق». قال: أرأيت ان لم يستطع. قال: «يأمر بالمعروف او الخير». قال «أرأيت ان لم يفعل. قال: «يمسك عن الشر فإنها صدقة».

8 ـ طريق (السمو الاخلاقي).. قال النبي:

أ ـ ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق».

ب ـ وسئل عن اكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: «تقوى الله وحسن الخلق».

ج ـ «ان من احبكم اليَّ واقربكم مني مجلسا يوم القيامة، احاسنكم اخلاقا».

د ـ «الا اخبركم بمن تُحَرم عليه النار؟ تحرم النار على كل قريب هين لين سهل».

وبهذه الادلة ـ ونظائرها ـ من الكتاب المجيد وصحيح السنة: نستيقن بأن للجنة ألف طريق، بل اكثر من ذلك.

وهذه الحقيقة مسنودة بمضامين ومفاهيم ومقاصد مبسوطة الساح متألقة السنا:

اولا: ان من مقاصد الاسلام (توسيع) طريق الخير وتنويع ذرائعه، في كل مجال وعلى كل مستوى.

ثانيا: ان (الجهاد) ـ بمعناه القتالي الدفاعي ـ عمل استثنائي، اي ليس طول العمر ولا على مدار الاربع وعشرين ساعة. فالقتال ممنوع في حالات السلم والتعاهد والهدنة والعجز.. الخ. فهل تسد الطرق الى الجنة في هذه الاحوال العديدة المديدة.. لا يجيب بنعم الا محروم من العلم بالاسلام.. ويستحيل ان يجود المحروم بما حرم منه، او ان تيقن الوصف ما لم يشاهد.. وبالعجز عن الجواب بنعم، يتبين: ان طرق الجنة لا تكاد تحصى.

ثالثا: ان كل عمل نافع هو معراج الى الجنة اذا توافرت فيه شروط ثلاثة:

1 ـ صحة الاعتقاد.

2 ـ صحة النية.

3 ـ صحة الوسيلة.

وبهذا تتضح سعة الاعمال المؤهلة للجنة، كما يتضح تنوع صورها وصيغها.

رابعا: ختمت سورة العنكبوت ـ وهي مكية ـ بهذه الآية: «والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا وان الله لمع المحسنين».

ونلتقي ـ ها هنا ـ بمفهومين عظيمين: مفهوم ان الجهاد ـ هنا ـ لا يقصد به القتال حيث ان القتال لم يشرع في مكة.. ومفهوم ان هناك (سبلا) يهدي الله اليها، لا سبيلا واحدا.. وهذه السبل المتعددة كلها موصلة الى الجنة.