محاكمة صدام: دروس الجلسة الأولى

TT

اثارت دراما بداية اولى محاكمات صدام حسين ملاحظات، ارجو ان يتداركها القضاء العراقي الجديد لتحقيق اقصى درجات العدالة، ووضع سابقة ترسي سيادة القانون على جميع ابناء الأمة العراقية.

استبدل مسلسل الانقلابات العسكرية من 1958، الملكية الدستورية، في طريقها للتطور لديمقراطية حديثة، بديكتاتورية، حرمت القانونيين العراقيين من خبرة اكتسبها زملاؤهم في بلدان اخرى.

القاضي رزكار محمد امين، وعرف باستقلاليته عن حكومة صدام، وبعدها عن مسؤولي الحكم الذاتي في كردستان، التي كانت وراء متناول صدام لأكثر من عقد، فاكتسب خبرة سير العدالة التي غابت عن بقية العراق.

تمكن صدام من سرقة الأضواء عندما استبدل القاضي السؤال المباشر: اسمك وسنك ومحل اقامتك؟،

بسؤاله عن «هويته» وهي كلمة متعددة التفسيرات، فمنحه فرصة الاستعراض للفضائيات القومجية. فطن القاضي للعبة فوجه، بحسم مهذب دون رفع صوته، المتهم الأول للجلوس، مما اكسبه احترام محامي الدفاع، الى جانب شجاعته، فهو الوحيد الذي ظهر في الصورة بينما خشي القضاة الآخرون انتقام عصابات البعث.

احسن القاضي بالأمر بإعادة اغطية الرأس العشائرية للمتهمين، وأخطأت ادارة المحكمة، بإهمال تفاصيل المظهر قبل بدء الجلسة، لتفويت الفرصة على اعداء العراق لاستغلال عرقية القاضي الكردية لأي تهم كاذبة بإهانة العرب. ويجب مراعاة هذه التفاصيل قبل اعادة نظر القضية يوم 28 نوفمبر.

ويجب ايضا معالجة شكوى الصحافيين من احتجاز دفاترهم وأقلامهم «لأسباب أمنية»، مما اضطر ممثلو السلطة الرابعة للاعتماد على الذاكرة، خاصة وانهم وراء ستار زجاجي مقاوم للرصاص.

طريقة افتتاح المدعي لحيثييات الاتهام تدعو للرثاء لحال القضاء العراقي الذي حرمته ديكتاتورية البعث من خبرة الممارسات السليمة.

الإجراءات ومجرى سير العدالة، في هذه القضية الحساسة ستحدد سابقة قانونية تجعلها اهم من الحكم نفسه، ولذا فمن الضروري عدم الخلط بين البعد السياسي لمحاكمة ديكتاتور سابق، وبين السياق القانوني. المتهم، بصرف النظر عن هويته، يحاكم في حدود القانون فقط لترسيخ سيادته، وتساوي الجميع امامه من رئيس حالي، سابق، او قادم، حتى اصغر عراقي بلغ سن الرشد.

ابدأ بقضية قتل 143 مواطنا عراقيا في قرية الدجيل، تهمة اقل في نظر البعض، من جرائم التطهير العرقي واغتيال خمسة آلاف كردي بالغاز السام في حلبجة عام 1988.

لكنها أضمن قانونيا، لربطها شخصيا بصدام الذي اعطى اوامر مباشرة بالانتقام من اهل الدجيل بعد محاولة اغتياله فيها عام 1982، حسبما يقول الادعاء. مع توفر ادلة كأشرطة فيديو ووثائق، وشهود عيان يتعرفون على المتهمين بارتكاب الجرائم.

تغلب الاسلوب الخطابي للمدعي على الوقائع القانونية وأقحم السياسة، فاحتج الدفاع بعدم علاقة عدوان صدام على ايران عام 1980، بالقضية المنظورة. قبل القاضي الاعتراض موجها الادعاء بالعودة لمسار القضية مما يشير الى ثراء خبرة القاضي نسبيا مقارنة بمحدودية خبرة المدعي.

بني القانونان المدني والجنائي العراقيان على القوانين المصرية والفرنسية، ولا ادري لماذا لم يستعن العراقيون، مثلا، بقضاة ومحامين ووكلاء نيابة من مصر وفرنسا، واتحاد المحاميين الدوليين، لإجراء بروفات مع ممثلين يلعبون ادوار متهمين، في محاكمات تدريبية غير معلنة كي يكتسب الادعاء وإداريو المحكمة الخبرة التي بدت ناقصة يوم الاربعاء.

احسن القاض بتأجيل نظر القضية 45 يوما ليتاح للدفاع استيفاء المسوغات، حيث تناقصت لقاء موكليهم وأعداد شهود الدفاع. وإذا احتاج الدفاع فترة اطول بعد جلسة 28 نوفمبر فيجب تأجيل القضية مرة ثانية وثالثة حتى يتاح للدفاع اكمال اعداد ملفاته كي تكون المحاكمة عادلة.

فأهمية ان يظهر العراقيون للعالم تحضرهم والتزامهم بسير العدالة وقاعدة ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته بأدلة لا تدع مجالا للشك، لا تقدر بثمن، حتى ولو كان هذا المتهم هو ديكتاتور مسؤول عن اراقة الدماء، فالهزيمة السياسية تختلف تماما عن اثبات إدانة المتهم قانونيا في المحكمة.

ويجب ان يقاوم العراقيون، في هذه المرحلة، اية ضغوط من أي جهة لتدويل المحاكمة، فالقضية عراقية، وضحايا صدام وعصابة البعث عراقيون. ويجب اعادة الثقة بالنفس للأمة العراقية القادرة على تطبيق القانون في محكمة عراقية وفق قوانين العراق.

ومن العار ان يفوت العراقيون الفرصة لإقامة نظام قضائي عادل، لمجرد «الانتقام» من صدام.

وستكون كارثة، لو رضخ العراقيون للضغوط وتعجلوا بإدانة صدام وحده وحكم عليه بالعقوبة الأقصى، فإطالة امد القضية وعلانيتها مطلوبان للمصالحة القومية بين العراقيين.

يجب محاكمة نظام البعث كله، فهناك اطنان من الوثائق وألادلة وشهادات الشهود على جرائم تفوق قدرة رجل واحد حتى لو كان رئيس عصابة البعث.

عندما اسس البيطار وعفلق حزب البعث، كان نموذجهما حزب موسيليني الفاشيستي المكون من البلطجية، ولنتخيل تركيبه مع حزب هتلر النازي، ومع عصابات المافيا وأتباع اساليب ستالين في تصفية الخصوم، لنخرج بنظام البعث وما فعله بالعراقيين في 35 عاما.

محاكمة صدام وبقية البعثيين، ستطهر الجروح وتكون كاستلقاء الأمة العراقية على اريكة التحليل النفسي للتخلص من اوجاعها.

ادلاء العشرات، وربما المئات من الشهود ( والذين يجب توفير نظام حماية كامل لهم) بأقوالهم، وعرض الصور، والوثائق وشرائط الفيديو التي صورها البعثيون انفسهم تفاخرا بذبح ضحاياهم ولإرهاب الخصوم، سيكون اهم عامل لبداية تفكيك اسطورة «البطل الفلكولوري» التي رسمتها الفضائيات العنترية والصحافيون المرتشون في تضليلهم لغير العراقيين»، ببطولة «صدام وتصديه» للصليبيين»، وتبدأ الصورة الكاذبة في التلاشي من الذاكرة الجماعية.

وعندئذ يدرك غير العراقيين الذين لم يختبروا بطش صدام، ان الديكتاتور، عراقيا او غيره، ليس بطلا، ويمكن ان يواجه العدالة. وستكشف الأدلة ان «بطل القادسية» قاتل استأجره البعث في الخمسينات والستينات لاغتيال الخصوم لقاء اجر معلوم، وانه ادار العراق كزعماء المافيا.

وهناك وثائق الشهود عن علاقة صدام بالمخابرات المركزية CIA وتزويدها له بأسماء الشيوعيين والنقابيين عقب انقلاب فبراير 1963، (واستباقا لهجوم القومجيين على موقع الشرق الأوسط احتجاجا: راجع مقابلاتي في الثمانينات مع ضباط المخابرات السابقين في كتابي:

Unholy Babylon: The Secret History of Saddamصs War ؛ الصادر في لندن ونيويورك 1990) -، مما يوفر ادلة لإدانة القاتل المأجور صدام، في جرائم ارتكبها قبل انقلاب البعث 1968.

والعراق في اشد الحاجة لتفكيك صورة «البطل» صدام تدريجيا من الذهن الشعبي، من اجل تضميد الجروح وتحقيق المصالحة الوطنية كما حدث في جنوب افريقيا، وحذار من تحويله «شهيدا» بإعدامه.

فعلى العراقي الجديد ألا ينحدر لمستوى صدام وزبانية البعث في التمتع بشهوة القتل كانتقام بدائي وحشي من الخصم، بل يضرب مثلا في التحضر والسمو الاخلاقي بإلغاء عقوبة الاعدام لتناقضها مع ميثاق حقوق الانسان، وليترك العراقيون صدام وعصابته ينظفون مراحيض السجون بقية حياتهم في حالة ادانتهم، تحقيقا للعدالة في عراق حر جديد سعيد مسالم مع نفسه وجيرانه.