ميجور والسنيورة: المفاجأة البريطانية.. والمفاجأة اللبنانية

TT

فاجأ رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة المجتمع السياسي اللبناني وأهل القرار العربي والدولي عموماً بأنه رجل يملك من الحذاقة في التعاطي مع القضايا الشائكة، وأحدثها موضوع السلاح الفلسطيني وارتفاع صوت «الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة» على صوت الحكمة المطلوبة اكثر من اي وقت مضى، ما يجعله دائماً في مأمن السقطات. وحيث انني من الذين عايشوا في بريطانيا على مدى سنوات تبدلاً صاعقاً في رئاستها غدت بموجبه السيدة مارغريت تاتشر خارج 10 داوننغ ستريت ثم خارج الحلبة السياسية، وحل محلها جون ميجور كرئيس للوزراء، فإنني أُجيز لنفسي وفي ضوء ما حدث للرئيس رفيق الحريري يوم الاثنين 14 فبراير (شباط) 2005 ان أرى في السنيورة انه جون ميجور بطبعته اللبنانية.

مثل هذا التوصيف يستوجب استحضار بعض الظروف والمعطيات والوقائع، بادئاً بالذي اوصل جون ميجور رجل الحسابات المصرفية المغمور الى رئاسة بريطانيا. ففي الوقت الذي كانت تاتشر في زيارة الى فرنسا عام 1991 للتباحث مع رئيسها فرنسوا ميتران، والذي كانت تخوض معه مبارزة الزعامة الأقوى لأوروبا، أتاها من لندن اسوأ خبر في حياتها وخلاصته ان تمرداً على زعامتها حدث داخل حزب المحافظين، وان الحزب يرى ان تتنحى لأن في ذلك مصلحة لوحدته التي كانت بدأت تتشقق نتيجة اندماج سياسي فوق درجة التوازن والتحمل بين تاتشر والرئيس جورج بوش الأب.

كان الخبر مثل اخبار الاستقالات التي يسمعها الوزراء في دول العالم الثالث من الإذاعة. كذلك كان الخبر دعوة عاجلة الى تاتشر لكي تعود الى لندن لا لتحاول كما يحدث في دول العالم الثالث قيادة انقلاب على الانقلاب، فنحن هنا في بريطانيا، حيث الديمقراطية اهم من الأمزجة ومن كل النياشين على الصدور، وإنما لكي تجمع اوراقها وتغادر مقر رئاسة الوزراء.

غادرت السيدة الحديدية مقر رئاسة الوزراء (10 داوننغ ستريت) وقد جُرِّدت من حديديتها، وبعد الانصراف الدرامي وجد البريطانيون انفسهم امام رئيس وزراء جديد دخيل على النادي السياسي، ذلك انه كان مجرد وزير للخزانة في الحكومة التاتشرية ولا وقت كافٍ لديه للتوغل في دهاليز العمل السياسي. لكنه في الوقت نفسه بارع في تدقيق الحسابات وصاحب خبرة مالية وليس مضطراً للمسايرة. عاش حياته في الظل لا تصل اشعة شمس العمل السياسي اليه. لا يوحي بالتحدي. وتضفي عليه النظارات الطبية بعض المهيبة. وخلال سنة شعرت بريطانيا معه بإستقرار نفسي كان غائباً نتيجة المعارك التاتشرية في كل الاتجاهات من «حرب الفوكلاند» إلى «حرب العراق» الى ضجيج الحروب السياسية في الداخل وعلى المستوى الأوروبي عموماً. ومع السنة الثانية من توليه الرئاسة نجح جون ميجور في تهدئة الخواطر البريطانية ووضع أجندة ترشيد للازدهار غير المدروس الذي كان من ظواهر الحقبة التاتشرية. والأهم من هذا كله هو أن الرجل أوحى من خلال الممارسة بأنه لا يتطلع إلى الزعامة ولن يصارع أحداً في الحلبة الأوروبية، وانه يفضل أن يغادر مشكوراً وليس مقهوراً، وعائداً إلى عالم الاستشارات الحسابية والمالية والمصرفية من دون أسف على منصب عال ضاع.

ما حدث في لبنان هو أن رفيق الحريري الذي كان ظاهرة لافتة في الحياة السياسية قضى في أفجع عملية اغتيال تحدث في العالم العربي. ومع أن السادات كان بطل حرب 1973 ورئيس الدولة العربية الأكبر إلاَّ أن دوي اغتياله وهو على المنصة يحتفل يوم 6 اكتوبر (تشرين الاول) 1981 بذكرى الانتصار المبهر والمثير للتكهنات والدوافع والجدل، إلاَّ ان تداعيات اغتياله لم تأت مصرياً وعربياً واقليمياً ودولياً بالدوي الذي نشأ عن اغتيال الحريري يوم الاثنين 14 فبراير (شباط) 2005. بعد هذا الاغتيال حدث فراغ في الزعامة السُنية لم يملأه أحد أعضاء نادي رؤساء الحكومات عمر كرامي رغم انه من بيت سياسي عريق وانه شقيق رئيس حكومة هو رشيد كرامي وابن رئيس حكومة هو عبد الحميد كرامي. ثم جيء بنجيب ميقاتي ليترأس حكومة انتخابات برلمانية جديدة انتهت جولاتها إلى فوز ما اصطُلح على تسميته «تيار الحريري» وحلفائه بأكثرية المقاعد. وفيما ساد الاعتقاد بأن الشروط مستوفاة امام سعد الدين الحريري الابن الثاني لرفيق الحريري لكي يترأس هو الحكومة، فإن سعد الدين ارتأى ترك مسألة الترؤس الى ما بعد انتهاء لجنة التحقيق الدولية في اغتيال والده وإصدار قرار الاتهام. وهو في ذلك نجَّى نفسه من تجربة الترؤس المبكر وما تتسبب به من ارتباكات وانتكاسات تؤثِّر على المسيرة السياسية مستقبَلاً، وعلى نحو ما حدث للسيد الصادق المهدي في السودان الذي كان اول من يترأس حكومة في السودان، وفي العالم العربي وغيره عموماً، وهو في العقد الثالث من العمر.

وفي ضوء الحسابات وصوناً لما يمكن ان يحدث اختار الحريري الابن، فؤاد السنيورة الشخص الأكثر اقتراباً مصرفياً من والده ليكون هو مَنْ يترأس الحكومة الدائمة شكلاً، الانتقالية ضمناً، أو بالأحرى من يحفظ له كرسي الرئاسة الثالثة إلى حين يتسلمها هو وقد حُسمت أمور كثيرة.. أو بمعنى آخر يتسلمها مع تسلُّم رئيس جديد للجمهورية.

بات فؤاد السنيورة بعدما تسلَّم رئاسة الحكومة بما يشبه «المبايعة البرلمانية» ظاهرة استوقفت اللبنانيين والعرب والمجتمع الدولي. فهو اعتمد المرونة ولغة التخاطب التي لا تستفز. واستطاع ان يعيد الطمأنينة إلى المستثمرين العرب الذين كانوا بدأوا يفكرون بعد اغتيال الحريري بتجميد استثماراتهم. وهو إلى ذلك لم يتصرف على انه سيملأ الفراغ الذي نشأ عن تغييب رفيق الحريري وإنما ترميم تصدعات سياسية ومالية وعلى نحو ما فعله جون ميجور في بريطانيا الذي لم ينشغل بإطفاء مصابيح الحقبة التاتشرية لكي يضيء مصابيحه ولا هو انشغل بالتخطيط لكي يحكم إحدى عشرة سنة كما حكمت تاتشر، وإنما ليعالج حالات بالغة التعقيد. ومثلما ان ميجور كان مفاجأة للبريطانيين وأمكنه رتق علاقة بريطانيا بالأوروبيين واستطاع ان يبقى سبع سنوات رئيساً للحكومة، فإن فؤاد السنيورة الذي أوصلته ظروف مماثلة لبعض الظروف التي أوصلت جون ميجور امكنه ان يشكل هو الآخر مفاجأة للبنانيين، بعد نجاحه في تهدئة العتب السوري، وتطمين المستثمر العربي وحُسن مخاطبة الأشقاء من السعودية إلى الكويت إلى مصر إلى دولة الامارات إلى الحضور المبهر في واشنطن بعد نيويورك إلى التعاطي مع موضوع السلاح الفلسطيني في المخيمات. ومثلما ان نقطة القوة في شخص ميجور كانت القناعة والاقتناع فإنها هي نفسها في شخص السنيورة.. أي القناعة بما يمكن أن يناله من سنوات في ترؤس الحكومة من دون التطلع إلى المزيد. والاقتناع بأنه رئيس حكومة لفترة انتقالية يحافظ فيها على المنصب لسعد الدين الحريري الذي يترأس بعده، ويهتم خلال المحافظة على المنصب بترتيب البيت الحكومي بحيث عندما يدخله سعد الحريري يكون في غاية التنظيم، بمعنى أن كل شيء في المكان المناسب والصحيح. وتلك حال من ينتسبون إلى دنيا المال والعمل المصرفي وميزانيات الدولة، ومِنْ هؤلاء جون ميجور الذي وضع ميزانيات مستقيمة يوم كان وزيراً للمالية في حكومة تاتشر وفؤاد السنيورة الذي بذل المستطاع من أجل ميزانيات مستقيمة وما زال يأمل بذلك. لعله ينجح في تحقيق ما يتمناه عندما يعود وزيراً للمالية في أول حكومة يترأسها سعد الدين الحريري... الذي يكتسب يومياً من الخبرة ما قد يقيه شر الصدمات.