كتابات من براغ.. مصحات الشيخ منير

TT

ربطتني بالسفير الراحل منير تقي الدين صداقة ومودة من الفئة الحقيقية. وبرغم فارق العمر كانت الصداقة رفقة ايضا.

وحيثما كنت اعمل او اسكن كان الشيخ منير يخطط لرحلاته الكثيرة بأن يمر بنا. وعندما كنت في باريس في السبعينات كان دائما يصل الى مكاتب «المستقبل» بقامته المديدة قادما من مصح ما: من المانيا. من النمسا. من تشيكوسلوفاكيا. وحتى من ايطاليا. وكان يشرح ويحدث طوال الزيارة عن فوائد المصحات: واحد للروماتيزم. وواحد للاعصاب. وواحد للعظام. والمصح النمساوي لتنظيف الصدر من النيكوتين كما كان يفعل هتلر. وحمامات الطين الايطالية لمحاربة السمنة كما كان يفعل موسوليني. والمياه المعدنية في مونتي كاتيني للجهاز الهضمي كما تفعل صوفيا لورين.

كان الشيخ منير مديرا لوزارة الدفاع في مرحلة الاستقلال ومحافظا للشمال ثم سفيرا عند تيتو. لكنه لم يرد الا ان يكون كاتبا مثل شقيقه سعيد تقي الدين. واصبح شقيقه الآخر بهيج اشهر محام في لبنان. فيما بقي هو في الوظيفة، ولذا وضع كتابا عن نفسه سماه «بصل الجنينة»، يسخر فيه مما حقق، كما وضع كتابين قيمين آخرين، الاول عن معركة الاستقلال والثاني عن تيتو واستقلال يوغوسلافيا التي زرته فيها يوم كان سفيرا.

كان الشيخ منير او «ابو زياد» كلما اتصل ليعلن قدومه القريب يقول: «بصل الجنينة يحييكم». لكن «بصل الجنينة» كان بحرا من السرد والذكريات في العمل السياسي والدبلوماسي والسير الشخصية.

وخصوصا في.... المصحات. وكان ينصحني بالسفر الى «باد ايشل» في النمسا للاغتسال الصدري من وسخ السيجارة. او يشير عليّ بالسفر الى ايطاليا او «ماريان باد». وكنت اضحك في داخلي دون ان اجرح مشاعره. فأنا في اوائل الثلاثينات وهو في اوائل الستينات. ومن المبكر جدا التبحر في علم المصحات. وفي شبابه يرفض الانسان ان يصدق ان العمر من حقائق الحياة، وهي صعبة مثل كل الحقائق الاخرى. ومنذ سنوات بدأت اتذكر اخبار الشيخ منير. وكما في كل شيء آخر لم اترك كلمة مكتوبة. وبدأت اتساءل ماذا افعل يا ترى بالروماتيزم وبأي مياه يقاتلون السكري، ومن أي ينبوع شربت صوفيا لورين قبل ان تمثل «خبز وحب و...».

وفي النهاية حملت نفسي وستيناتي وجئت الى كارلو فيفاري. حيث الخارج ضباب ومطر بغزارة مطر جاكارتا في الصيف. وفي الداخل، روس. وروس. وموظفون لا يتكلمون كلمة انجليزية او فرنسية واحدة. واخيرا ظننت ان المفاجأة قد وقعت عندما القى عليّ احدهم في بهو الفندق التحية بالعربية: مرحبا! فقلت، مرحبا، هل تتحدث العربية؟ فأجاب بالروسية: نييت! «مرحبا» هي كل ما تعلم خلال رحلة الى الخليج. ويعد نفسه بتعلم كلمة اخرى في القرن المقبل. هذا القرن يكاد ينتهي. «نييت».