تقرير ميليس.. ذريعة أم مخرج..

TT

كشفت المكالمة المسجلة التي أجراها رستم غزالة مع السيد «إكس» في لبنان، حالة الانحدار الساكنة في تفكير ذلك الرجل، فهو يريد استقالة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، فيطلب من اللبناني «إكس» إنزال الناس الى الشارع وكأنهم قطيع، وبالتحديد الى السوليدير وقريطم للتظاهر ضده ودفعه الى الاستقالة «مثل كلب» (حسبما جاء في تقرير القاضي الالماني ديتليف ميليس)، ويسأله السيد «إكس»، عما إذا كانت سوريا قادرة على تشكيل وزارة جديدة، وبكل استخفاف بالأعراف اللبنانية يجيب غزالة: نعم، نستطيع ان نعّين بطرس حرب!، وبطرس حرب مسيحي ماروني ومنصب رئاسة الوزراء في لبنان للسنة، وكان غزالة في عز تحكمه بلبنان قادراً على كسر كل القوانين. وكم يبدو الفرق شاسعاً في معاملة المحتل لسياسيي الدول القابعة تحت الاحتلال، والإشارة هنا الى تقديم محطة الـ «بي. بي. سي» مساء الاثنين الفائت الحلقة الثالثة من البرنامج الوثائقي« إسرائيل والعرب: السلام المتملص»، تضمن لقطات من قمة العقبة التي جمعت محمود عباس وكان رئيساً للوزراء، ومحمد دحلان، ونبيل شعث عن الجانب الفلسطيني القابع تحت الاحتلال، وآرييل شارون رئيس الوزراء الاسرائيلي، وشاوول موفاز، ويوسي ليبيد. وظهر عبر اللقطات الترحيب الاسرائيلي والاحترام الذي قابل به الاسرائيليون «اعداءهم» الفلسطينيين، حيث كانوا يصغون لكل كلمة يقترحها الفلسطينيون، حتى، لو لم يأخذوا بها، انما كان الاحترام للطرف الفلسطيني جلياً، مع العلم ان تاريخاً عسكرياً يمتد وراء شارون، وموفاز وليبيد، ويعرف اللبنانيون تاريخ رستم غزالة، خصوصاً ان بعضاً كبيراً منهم ساهم في صنعه. للآسف.

على ما تقدم، فإن التقرير الذي قدمه ميليس في العشرين من الشهر الجاري لا يوّرط فقط اجهزة الاستخبارات السورية، ويتبع لأحدها رستم غزالة، بل يسّمي شخصيات قريبة جدا من نظام الرئيس السوري بشار الاسد، ففي النسخة غير المعّدلة يشير التقرير الى أسماء، ماهر الاسد شقيق الرئيس، وآصف شوكت صهره زوج شقيقته الوحيدة بشرى ورئيس الاستخبارات العسكرية .قال ميليس إن الاتهامات غير حاسمة، وهذا ما دعاه الى شطب الاسماء في هذه المرحلة، وطالب بالتالي بتمديد فترة التحقيق حتى الخامس عشر من شهر كانون الاول (ديسمبر) المقبل، وهذا التمديد قد يؤدي الى اتهام شخصيات سورية أخرى، انما يعطي الرئيس السوري مجالاً لمراجعة خياراته.وكان مارتن إنديك مساعد وزير الخارجية الاميركي السابق لشؤون الشرق الادنى والسفير السابق لدى إسرائيل، والمتفهم للموقف السوري، نشر مقالاً في صحيفة «فايننشال تايمز» يوم الاثنين الماضي أشار فيه الى ان الرئيس السوري بشار الاسد، فكر بالخروج من هذه الازمة وأرسل مبعوثين الى واشنطن محّملين باقتراح -صفقة، حسب النموذج القذافي، يتضمن تسليم مسؤولين سوريين من ذوي الرتب الصغيرة، وإنهاء النشاطات السورية العدائية، لكن الاقتراح وصل متأخراً جداً...!.

لكن النوافذ لتحقيق صفقة لم تغلق نهائياً بعد، وكأن التقرير يعطي الذريعة، كي تتحول الى مطلب شبيه بمشجب إنقاذ، فهو يفيد ان سوريا لم تتعاون، كما ان وزير خارجيتها فاروق الشرع ضلل التحقيق عن قصد، والمعروف ان فئة مقّربة من بشار الاسد تعبت من تشنجات الشرع وتمسكه بماض بعثي متحجّر.

وكما كان متوقعاً، فقد رفضت سوريا النتائج الاولية للتحقيق، مع العلم،ان طفل الثلاث سنوات في لبنان، لو سألته عمن يقف وراء اغتيال الحريري، لأجاب فوراً: سوريا. بعد التقرير قرر المجتمع الدولي اتخاذ الاجراء المناسب، وقد أكد لي مصدر أميركي ان الولايات المتحدة لن تتخذ موقفاًِ منفرداً من سوريا، ففي لقاء مغلق مع ستيفن هادلي مسؤول الأمن القومي الاميركي، بعد صدور تقرير ميليس، قال: »إن أي قرار متعلق بلبنان او بسوريا لن يكون منفرداً، وان واشنطن ستنسق مع الامم المتحدة«.

على كل، فسواء تمّ اتخاذ قرار دولي بسرعة ام لا، فإن السياسة التي مارستها سوريا في لبنان على مدى سنوات الاحتلال، عزلتها إقليميا ودولياً، ولم يعد باستطاعتها الاعتماد غير المشروط على دعم حلفائها العرب، خصوصاً الدولتين المعنيتين باستقرار المنطقة اي السعودية ومصر، وهذه العزلة جعلت سوريا عرضة أكثر للضغوط الاميركية وأعطت ادارة الرئيس بوش زخماً دبلوماسيا قوياً، يمكنه من معاقبة سوريا على التجاوزات التي اقترفتها في لبنان.

بعد تقرير ميليس،يبدو ان الاجهزة الأمنية ما زالت متحكمة في تسيير النظام السوري،والذي أشار الى هذا بوضوح، المؤتمر الصحافي الذي عقده رياض الدوري باسم الحكم لدحض تقرير ميليس، وربما كان متعّمدا عقده في فندق ميريديان، الذي جاء التقرير على ذكره، والكل في سوريا يعرف أن هذا الفندق هو بمثابة مركز اضافي للاستخبارات السورية، فكله اجهزة تنصّت، ومليء بعناصر مختلف الاجهزة الأمنية السورية،التي تعمل، للتمويه، في طاقم الخدم والمشرفين على الغرف والقاعات، مما يعني ان الرقيب الذي شكا من وجوده ميليس

(الدوري) مراقب هو الآخر وعرضة للإحراج، إذ سألته إحدى الصحافيات السوريات، بكل نباهة: ألن تطالبوا بإقالة ميليس من التحقيق؟

لقد بات من المحتمل ان تستغل الادارة الاميركية الضعف الذي يعصف بالنظام السوري، انما كوسيلة لتغيير مواقفه تجاه لبنان، والعراق وربما إسرائيل، لكن، وفي حين ستعمل على دفعه لتغيير تصرفاته، إلا انه من المستبعد ان تعمل على تغيير النظام نفسه،خصوصاً أن عدم توفر البديل يمكن ان يؤدي الى فراغ سياسي، قد يملؤه الاخوان المسلمون، ويوفر بالتالي ملاذاً أمناً لعمليات القاعدة.أما بالنسبة الى الخيارات المطروحة امام بشار الاسد، فهي تقريباً محددة في التقرير. لقد وافق على التعاون الكامل مع التحقيق المقبل، ويمكن ان يكون للافادات الجديدة وقع خطير على النظام، خصوصاً اذا ثبت تورط ماهر الاسد وآصف شوكت في اغتيال الحريري. إن بشار الاسد يعتمد على دعم شوكت، فهو لاعب اساسي في حماية النظام وأجهزته الأمنية. في الماضي كان النظام يتخلص من كل مسؤول يمكن ان يعّرضه للخطر، إما بالإقالة او بالموت في ظروف مثيرة للشبهات، كما حصل أخيراً مع غازي كنعان الذي قيل انه انتحر، هذه المعادلة لا يمكن ان يطّبقها بشار مع شقيقه ماهر او صهره اصف، لهذا يمكن ان يعمل من اجل التوصل الى تسوية تتيح له الاحتفاظ بعناصر نظامه الاساسيين، مقابل ان يلتزم بتطبيق قرارات الامم المتحدة، لاسيما القرارين 1559و1595، وأيضا بتحقيق الاهداف الاميركية في المنطقة، كالسيطرة على الحدود العراقية ـ السورية، ووقف دعم جبهات الرفض الفلسطينية، وطمر حلمه بإعادة لبنان ساحة نفوذ لسوريا، دون ان ننسى احتمال تسليم مسؤولين من رتب متدنية. وكان السفير السوري في المانيا قال لمجلة «دير شبيغل»: «إن رستم غزالة في متناولنا عند الضرورة».

في المقابل، سيجعل خطر وصول إسلاميين الى الحكم في سوريا ـ لا بد ان يدعموا المقاومة السنية والجهاديين في العراق، ويحققوا اهداف القاعدة ـ، سيجعل الادارة الاميركية تمتنع عن تغيير النظام في سوريا، وأي تدخل اميركي عسكري في سوريا يمكن ان يوفر ساحة قتال جديدة للجهاديين،حيث يصل عبثهم الى الدول المجاورة، لكن على النظام الحالي الا يراهن على حظه الجيد في هذه المعادلة، إذ لا عودة الى الوراء، ولا بد من المحاسبة مهما كان الثمن، وعليه بالتالي ان يفكر بمصيره كأفراد حكموا وجاروا، وقد رأى ما حل بصدام حسين، كما عليه ان يفكر بشعبه الذي وقف معه، ودافع قسم منه، ولو اضطرارا عن أخطاء النظام.

أما بالنسبة الى اللبنانيين، فعليهم ان يأخذوا عبرة من الماضي، وهمنا هو أن نأكل العنب لا ان نقتل الناطور، وهذا الناطور لن يعود بعد اليوم الى لبنان، لذلك على اللبنانيين عدم الكف عن المطالبة بإقامة علاقات دبلوماسية مع سوريا، وترسيم الحدود بين البلدين،وأن لا يتدخلوا بالشأن السوري، أبقي النظام ام لا، لأن هذا الامر يعود للشعب السوري، لقد كان اللبنانيون يطالبون العالم بالكف عن التدخل في شؤونهم وبالذات سوريا، وعليهم الآن التصرف بالمثل. ولا ينفع حركة امل وحزب الله ان يكررا تجربة 8آذار(مارس)، في تبني الموقف السوري مجددا، على حساب كل اللبنانيين.فلقد طوى تقرير ميليس صفحة من التوقعات وفتح صفحة أخرى من التطورات.