شموس و«رواشن»

TT

تعرف (سرينات) البحر الأسطورية بأنها كائنات خرافية لها رؤوس حسناوات فاتنات وأجساد عصافير تمارس إغراء البحارة بغنائها العذب وهي تقف على شاطئ صخري فيكون الغرق مصير السفن الجانحة عشقا إلى شاطئها.. تلك الـ«السرينات» كثيرا ما تتغنى على مسامعي في كل مرة أعبر فيها بالقرب من شوارع جدة القديمة مثل: «قابل» و«الخاسكية» و«الندى» بأغنية لابن محسون:

يا شارع حبيب الروح ... عمَالي أجي واروح

مستني مناي يطل ... متمني بسـري أبوح

فأغرق في ذكريات «الرواشن» العتيقة، يوم كانت تهطل منها الشموس لتضيء عتمة الأزقة الذابلة، حينها كانت جدة عصفورة تغلق أبواب عشها إذا ما حل المساء وتشعل «فانوس» أحلامها، فتومض كنجمة في حضن سماء بعيدة.

اليوم لم يبق لمنطقة جدة القديمة من شهور العام سوى شهر رمضان، تتغندر فيه شوارعها العتيقة بالحوانيت المضيئة، وتتموسق فضاءاتها بنداءات بائعي حلوى العيد:

يا حلاوة العيد.. يا حلاوة

من مال جديد .. يا حلاوة

فتدب الخطى من جديد في الدروب المهجورة، وتتحول المدينة إلى مهرجان فرح.

وهذه المدينة ـ التاريخ إن لم تكن حضنا لرفات أم البشر حواء، أو مسرحا لحياتها، فإن النقوش الصخرية المحفورة على بعض صخورها تؤكد أن الاستيطان البشري بها يمتد إلى العصر الحجري الحديث، وفي الرويات أن الإسكندر المقدوني مر بها قبل أن يقطع البحر من جدة ليؤم بلاد المغرب، وأن عرب الجاهلية شدوا الرحال إلى صنمها «سعد» فخاب ظنهم فيه فقال قائلهم:

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد

وهل سعد إلا صخرة في تنوفة ... لا يدعى لغي ولا رشد

تلك جدة العتيقة بتاريخها وحكايات أيامها توشك اليوم أن تختفي من بين عيوننا كشعاع ضوء، فحينما يقول مهندس معماري كبير مثل الدكتور سامي عنقاوي إن بيوت جدة في المنطقة التاريخية ستزول خلال عشر سنوات إذا استمر الحال على ما هو عليه، فإن أسهل الحلول كي تهرب من فاجعة الحقيقة أن تتهم العنقاوي بأنه لا يفهم في الهندسة، وتخلد إلى وهمك الزائف كي ترتاح من وجع الدماغ.

فهل نقول لتلك الجميلة: «باي .. باي»؟ فلن يبقى منها بعد سنوات سوى ما وجده غابرييل غارسيا ماركيز حينما عاد إلى قريته الصغيرة في كولومبيا بعد طول غياب ليقف على أطلالها ويقول: «لقد تحول كل شيء إلى أدب».

[email protected]