دائرة السلام السودانية.. توليفة الأمل والإحباط

TT

بقدر ما تبدو صورة الاوضاع في السودان ماضية وان ببطء نحو الانفراج، تظهر تعقيدات لم تكن واردة على البال، وفيها من التناقضات ما يشي باستحالة السلام المنشود. والامثلة كثيرة على الصعيدين، صعيد حلحلة التعقيدات وصعيد تعميقها. فمن جهة كان مقاتلو دارفور يصرون ويلحون على مشاركة الحركة الشعبية في مفاوضات سلام دارفور بحسبانها الاقرب اليهم، ولما ارتضت الحركة المشاركة بعد دخولها حكومة الوحدة الوطنية اعلن الناطق باسم حركة تحرير السودان اسماعيل عمر: ان حركته ستبلغ الاتحاد الافريقي الذي يرعى المفاوضات انها ستنسحب من المفاوضات اذا استمر وفد الحكومة بمواقفه المتمثلة في التمسك بالدستور الانتقالي الذي ترفضه حركتهم، بالرغم من ان هذا الدستور هو الوثيقة الاساسية التي ضمنت سلام الجنوب وارتضتها الحكومة والحركة معا ورعتها القوى الدولية. فنقض هذا الدستور يعني انهيار اتفاق السلام برمته ويعني بأن المشاركة التي تمنوها من الحركة الشعبية في المفاوضات هم اول من تنكر لها برفضهم للدستور الانتقالي، وما يعني ضمنا رفضهم لاتفاقية السلام التي اعتبرها كل العالم مدخلا لسلام وحكم السودان وخير اطار لمفاوضات سلام دارفور!

وعلى ذات الصعيد ايضا يضغط المجتمع الدولي على السودان وحكومته بأنه لن يقدم ما وعد به من معونات التزم بها في مؤتمر المانحين بأوسلو ما لم تحل ازمة دارفور، وهو بهذا الموقف يعطل عجلة مسيرة السلام في الجنوب مثلما يعطلها متمردو دارفور باصرارهم على رفض الدستور الانتقالي الذي بدونه ينهار اساس السلام كله!

بالتأكيد ليس هناك توافق مقصود بين المجتمع الدولي وحركتي التمرد في دارفور، فالمجتمع الدولي يرغب في ترسيخ سلام السودان، لكن المتمردين اقل ما يمكن ان يقال عنهم انهم يتخبطون في صراعاتهم الداخلية ويزايدون لاسباب شخصية ترتبط بالنزعات القبلية والزعامية بينهم! وهذا ما لم يفطن اليه المجتمع الدولي في المبتدأ ويحدد وفقا له سياسات اكثر ملاءمة كعدم الربط بين توطين السلام في الجنوب وحل نزاع دارفور وتوجيه ضغوط مكثفة على حركتي التمرد لكي تدخلا المفاوضات بروح جادة ووفق رؤى تمثل المصالح الحقيقية لشعب دارفور بمختلف اعراقه وقبائله.

وعلى ذكر القبائل قال احد اعضاء الوفد الحكومي في مفاوضات ابوجا: ان المتمردين مصرون على استبعاد بند الادارة الاهلية من محور السلطة في حين يتمسك به وفد الحكومة نظرا لاهمية دور الادارة الاهلية في المرحلة المقبلة. ترى هل هناك اي منطق في استبعاد دور الادارة الاهلية؟ الم تقل منظمة مجموعة ادارة الازمات الدولية في تقريرها الاخير ان سبب الانقسامات وسط حركة تحرير السودان ومن قبلها حركة العدل والمساواة يعود الى صراعات قبلية؟ فاذا كان الأمر كذلك ألا تكون الاستعانة بالإدارة الأهلية المكونة اصلا من زعماء القبائل والعشائر عنصراً ضرورياً واساسياً في تسوية النزاعات وتهدئة الخواطر والمحافظة على توافق النسيج الاجتماعي؟ اذن لماذا يرفض بارونات الحرب دور الادارة الأهلية القبلية طالما انقساماتهم ذات بعد قبلي ليس بشهادة المجموعة الدولية لاداة الازمات فحسب، وانما بشهادة كبير وسطاء الاتحاد الافريقي في المفاوضات بل وباعترافات من بعضهم. الاجابة ببساطة تتجلى في انهم يريدون ان يكونوا هم البديل لهذه القيادات التاريخية واية قيادات سياسية اخرى وهذا امر مستحيل! ولكن بارونات الحرب في دارفور لا يقف تخبطهم عند حد وإنما اصبح الانفلات سمة وصفة تلازم كل خطواتهم فبينما تجرى المفاوضات في ابوجا أعلن فصيل منشق أنه لن يعترف بها! وتواجه قوات الاتحاد الافريقي الذي هو يباشر المفاوضات ويرعى السلام في المنطقة القتل والاختطاف من مقاتلي الحركتين كما تواجه منظمات الاغاثة النهب والسلب واختطاف الشاحنات! وازاء هذا الوضع المؤسف، لا أمل في الوصول لسلام قريب كما يقول تقرير منظمة ادارة الازمات بالحرف «طالما ان المتمردين منقسمون، وخاصة حركة تحرير السودان، وطالما القتال مستمرا في دارفور فإن لمحادثات السلام في ابوجا فرصا ضئيلة في النجاح». وتنبأت المنظمة بأن الانقسامات قد تؤدي إلى زيادة عدد المجموعات المتمردة. ما يجعل التوصل الى حل سلمي امراً مستحيلاً.. وترى الأمم المتحدة ان الوضع وصل حد الفوضى!

وبالرغم من هذه الصورة المتشائمة التي توصل اليها تقرير ادارة الازمات، فان الصورة في الخرطوم تبدو مختلفة بعض الشيء اثر زيارة وفد الترويكا الاوروبية برئاسة مسؤول السياسة الخارجية الذي قال بعد لقائه مع سلفا كير النائب الأول للرئيس السوداني «مشاعري بناءة تماماً وايجابية تماماً بشأن وحدة السودان» وتحدث للصحافيين عن سلفا كير قائلاً «انه لا يشعر فقط انه رجل الجنوب بل انه سوداني يريد بناء سودان ينعم بالرفاهية ومتحد. وهذا اهم شيء كان يجب ان نسمعه منه».

وفي المقابل ماذا قال كير؟ انه دعا وفد الاتحاد الاوروبـي للضغط على حاملي السلاح للتوصل إلى تسوية سلمية لقضية دارفور، وطلب من الاتحاد الاوروبي الاضطلاع بدوره لتحقيق الاستقرار في المنطقة. وطالب بعدم ربط المساعدات الاوروبية بمعالجة مشكلة دارفور، بجانب السماح للسودان بالسحب من المبالغ المجمدة له حسب اتفاقية لومي وكوتونو تعزيزاً لاتفاقية السلام.

ولا شك ان كل ما قاله وطالب به سلفا كير يمثل سياسة قومية بكل ما تعني هذه الكلمة. ولعل هذا هو ما حدا بسولانا ليقول عنه انه رجل كل السودان.. والمطلوب من الشريكين في الحكم الحرص والمحافظة على هذا النسيج، ولكن يبدو للأسف ان سلطات ولاية الخرطوم قد خرجت عن هذا الخط بعدم التزامها بنص وروح الاتفاق الذي يحكم عاصمة البلاد كما ورد في اتفاق السلام، مما حدا بالحركة الشعبية الى مـطـالـبــتها باعادة النظر في قرارها قفل المطاعم والكفتيريات اثناء شهر رمــضان باعــتباره انتـــهاكــاً وانــتقاصاً لحقوق غير المسلمين، واعتبر الناطق الرسمي باسم الحركة قطاع شمال السودان وليد حامد قرار محافظة الخرطوم فيه خروج واضح عن روح اتفاق السلام بما له من تأثيرات سلبية على مجريات الحياة الاجتماعية في الوحدة والنسيج الاجتماعي والوطني خصوصا ان جميع سكان الخرطوم ليسوا مسلمين.

والحركة بلا شك محقة فيما تقول وما كان لمحافظة الخرطوم ان تقع في هذا الخطأ، فاستمرار فتح المطاعم في رمضان ليس بدعة وانما هو أمر كان طبيعياً في السودان وفي غالب عواصم العالم الاسلامي وينبغي الحرص عليه في الخرطوم بوجه خاص ليس لاعتبارات تتعلق باتفاقية السلام وانما لاعتبارات تتعلق بالتقاليد السودانية الموروثة ولانه لا اكراه في الدين والمأمول ان تعدل المحافظة عن قرارها ففي ذلك ما يساعد على وحدة النسيج السوداني كما قال مسؤول الحركة.