وما خفي .. أعظم

TT

إذا كان بعض السياسيين والمحللين يأخذون على تقرير ديتليف ميليس، المحقق الدولي في جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الراحل، رفيق الحريري، نشره قبل اكتمال كل معطياته ففي اشارته الى ان لجنة التحقيق لا تستطيع، في هذا الظرف، «الكشف عن كل العناصر المفصلة والحقائق التي بحوزتها» ما يوحي بأن ما خفي،أو أخفي، من التحقيق أعظم مما كشف.

ما يمكن اعتباره تقرير «منتصف الولاية»ـ الممدة لغاية 15 ديسمبر (كانون الثاني) المقبل وربما الى ابعد من ذلك بكثير ـ أول الغيث فحسب.وإذا جاز الحديث عن منحى «تسييسي » في هذا التقرير، فالتسييس في جريمة سياسية في نهاية المطاف، قد يكون الغاية المطلوبة من كشف الحقائق، نصفيا، حتى الآن، ومن تجنب الخوض بتفاصيلها مدعومة بالاسماء والادلة والشهود.

أهمية تقرير لجنة ميليس الحالي تكمن في ما يحاول _ أو يقصد- أن يثيره من ردود فعل سياسية على استنتاجاته، خصوصا في دمشق المتهمة بالتقصير في تعاونها مع اللجنة وحتى بـ «تضليل» التحقيق.واستنتاج التقرير بأن قرار اغتيال الحريري ما كان ليتخذ من دون علم كبار المسؤولين الأمنيين في سورية يبدو المحك الفعلي لمقاربة دمشق للتقرير، واستطرادا لمدى استعداد الدولة للتعامل معه قانونيا... أو «تسييسيا»، كما بدا حتى الآن.

ليس كالازمات فرص لصقل الدول. واسلوب التعامل مع تبعات اغتيال الحريري فرصة نادرة لاثبات الدولة السورية مصداقيتها الدولية وبالتالي براءتها، كدولة، من جريمة ربما خطط لها بعض أركان النظام السياسي الحزبي في دمشق.

ولكن ما بدر للآن من ردود فعل انفعالية في دمشق حيال التقرير يوحي بان ردها على ما وجهه من اتهامات مباشرة للنظام يصاغ بذهنية الخمسينات: تظاهرات «شعبية» صاخبة، احراق لأعلام اسرائيل واتهام الزعامات اللبنانية بالعمالة للموساد ـ بما فيها الزعامات التي حاربت الى جانب دمشق لاسقاط اتفاق 17 مايو(ايار) الشهير مع اسرائيل.

قد تنفع هذه الفورات الشارعية في طمأنة النظام الى وضعه الداخلي وحتى في «تسييس» قضية الاغتيال ولكنها لا تشكل صك براءة من اتهامات لجنة التحقيق الدولية.

بعد نشر تقرير ميليس لم يعد واردا تبرئة النظام الأمني السوري _ اللبناني السابق من مسؤولية ما ـ ولو معنوية ـ في جريمة اغتيال الحريري. وبعد ان حدد التقرير بوضوح الجهة التي تتحمل هذه المسؤولية أكثر من غيرها، لم يبقَ قابلا للجدل سوى موضوع تحديد المستوى التنفيذي الذي تقف هذه المسؤولية عند عتبته.

من هذا المنطلق بالذات تستطيع سورية ـ الدولة ان تفتح صفحة جديدة مع لجنة التحقيق الدولية فتبدأ بتعاون قضائي وإجرائي جدي معها يضع الامور في نصابها ويظهر الحقيقة كاملة، وان اقتضى الامر «التضحية» ببعض رموز السلطة.

وقد يكون موقف العواصم الغربية الكبرى الداعي الى «تحديد مهلة لسورية» للبدء بتعاون كامل مع لجنة التحقيق الدولية ومحاسبة المسؤولين عن الاغتيال الفرصة المتاحة لدمشق لتبرئة الدولة من هذه الجريمة، وإن على حساب النظام.

وقد لا يكون من المبالغة في شيء توقع تجاوز النظام نفسه مأزق الاغتيال بعملية جراحية جذرية، لا تجميلية، لرموزه وأركانه طالما بقيت واشنطن متخوفة من «البديل»... في حال انهياره.